” أصدقاء ناصر ” مبادرة الحياة في زمن الموت

إب7 press

نشوان النظاري

حزم الشاب المكافح ” ناصر المجيدي ” أمتعته ذات صباحا شتويا قارسا، وغادر المكان القاحل صوب الغربة، ذهب مثقلا بواقع أليم ومنطقة مقفرة من الخدمات والحضور الرمزي للحياة.

يقطن ” ناصر ” في منطقة ” العمارنة ” الجبلية، آخر مناطق مديرية العدين ومحافظة إب، والمحاذية لمديرية شرعب السلام بمحافظة تعز.

  •  انعدام الخدمات

لا يوجد في المنطقة أية خدمات تذكر، لا ماء للشرب، ولا وحدة صحية أو مستوصف، والطريق الرابط بين المنطقة والمحيط الخارجي صخرية وغير معبدة ولا تصلح للسير بالأقدام في بعض الأماكن، حتى أن أحدهم إذا مرض يمكن أن يموت من شدة عناء الطريق أثناء الإسعاف قبل وصوله لأقرب مشفى، وقد توفي خلال الشهر الجاري 12 مريضا، ناهيك عن بعد المدارس لا سيما الثانوية، وانعدام تعليم الفتاة، باستثناء قلة قليلة في الصفوف الأولى.

  •  وسيلة المواصلات

سيارة ” محمود ” هي وسيلة المواصلات الوحيدة في المنطقة، وسيارة أخرى للسائق ” رياض ” من عزلة أخرى في نفس المديرية، والأخيرة هي من اقلتنا للمنطقة الجبيلة الوعرة بمدة زمنية تجاوزت الـ 6 ساعات، لقد كانت رحلة صعبة ومجازفة فالطريق إلى هناك ضربا من المغامرة المليئة بالمخاطر.

  •  مبادرة أصدقاء ناصر

وصل ” ناصر ” إلى الغربة، وبالتحديد إلى المملكة العربية السعودية، وكل همومه وتطلعاته كيف يمكنه أن ينتشل واقع من تركهم خلفه يعانون الأمرين، وعمل منذ اللحظات الأولى على كسب ثقة الآخرين ومشاركتهم هم ومعاناة منطقته، وبقدر عزيمته وصدقه وإخلاصه وتفانيه أحتوى العديد من المغتربين هناك، من نفس المنطقة ومن مناطق مجاورة ومن مناطق بعيدة، ومن أشقاء عرب وأصدقاء من دول أجنبية، ليبلور حلمه على هيئة مبادرة أسماها ” أصدقاء ناصر” في العام 2018م.

يقول أحمد الشهاري، رئيس المبادرات المجتمعية بالمديرية:” رفعنا بخطة المشاريع للجهات المعنية في السلطة المحلية والاحتياج الطارئ لمشاريع الطرقات كونها عمود التنمية، وقد قدمناها على هيئة مصفوفة تنفذ خلال 5 سنوات بتسهيلات حكومية ودعم منظمات خارجية ومساهمة مجتمعية، لكننا فوجئنا بأن أغلب المنظمات والجهات الداعمة ليست سوى إغاثية وتقدم مساعدات عينية وغذائية فقط”.

  •  بصيص أمل

حال وصولنا للمنطقة على متن سيارتي صالون وأخرى نوع ” برادو ” تحلق الأهالي حولنا، فيما ظل الأطفال يركضون خلفنا من قرية لأخرى، حتى استقر بنا المقام في منطقة العمارنة المعلقة على ضفة الجبل الشامخ بوقار من لا يُقهر.

يؤكد الأهالي أنها المرة الأولى التي يصل فيها وفد إعلامي للمنطقة، حيث يقول شابا، يرتدي ثوبا بنيا وشالا مطويا على رأسه، وتبدو عليه ملامح الدعابة والهزأ وروح النكتة: ” نحن كأكراد حدود العراق، محافظة إب تهملنا كوننا أبعد نقطة من عاصمة المحافظة، فيما محافظة تعز لا تعترف بوجودنا بالرغم من قربنا منها، حيث أننا لا نتبعها إداريا “، ومن المصادفة أن الفريق الإعلامي تناول وجبة الغداء الشهية العامرة بالمأكولات الشعبية الطبيعية كالفتة واللبن وكلها من خيرات الأرض، في محافظة إب وشرب الشاي في محافظة تعز، بالرغم أنه لا يفصل بين المنزلين سوى بضع أمتار، لكن هكذا تكون طبيعة المناطق الحدودية الفاصلة.

يفيد الناس هناك أن المنطقة لم يطأها قدم مسؤول منذ وجدت على ظهر البسيطة.

يتحدث رجل سبعيني يمضغ وريقات القات بصعوبة بالغة مركزا اهتمامه حول الخدمات الصحية،” عندما يمرض أحدهم هنا فإن تكاليف إسعافه تفوق ثمن علاجه “، مؤكدا أن أحد المرضى أسعف قبل أيام فكانت نفقات المعاينة والعلاج لا تتجاوز الـ 20 ألف، فيما أجرة السيارة بلغ 30 ألف ريال.

نظر الجميع لنا بأننا بصيص أمل ودلو نجاة ونافذة لإيصال أصواتهم ومعاناتهم للجهات ذات العلاقة.

كان الفريق الإعلامي الزائر للمنطقة بقيادة الزميل محمد مزاحم، مكون من الزملاء فهد صلاح، عبدالخالق الجنيد، صباح الشغدري، عبدالكريم الرعوي، علي درموش، سليمان الكبسي، والناشطين مرسل الشبيبي، خالد كرش، والمصورين محمد اليفرسي، مفيد السمين.

  •  أصدقاء ناصر .. مبادرة الحياة في زمن الموت

أنطلق ” ناصر “، أب لثلاث أقمار هلا وغلا وحلا، ونجم أوحد أسماه حمد، بكل تحدي وإصرار في مهمة بعث الحياة في الهامش الجغرافي، وإيقاد شموع الأمل في وجه العتمة، وأعلن عن مبادرته الإنسانية ” أصدقاء ناصر، لرصف طريق العمارنة من الحافة وحتى الزنجي”، وقد لاقت المبادرة تشجيعا ودعما ماليا، تم على إثره تم تنفيذ مرحلتين في العام 2019، والعام 2020م، وتدشين المرحلة الثالثة قبل الأخيرة 2021م خلال هذا الشهر.

المرحلتين السابقة الأولى والثانية للعامين 2018، 2019م تم تنفيذ توسعة ورصف 900متر مربع طولي بعرض 4 متر، بتكلفة بلغت 46 مليون، واليوم يتم تدشين المرحلة الثالثة بطول 415متر طولي بعرض 4 متر، وبتكلفة تقدر 21 مليون وخمسمائة ألف ريال، ما يعني إنجاز 310متر، والمتبقي هو 105متر لاستكمال كافة المشروع.

وتشير المعلومات من قبل القائمين على المبادرة أنه في حال تم إنجاز المرحلة الثالثة فإن التنفيذ الكلي لمشروع طريق المنطقة يصل إلى 70 %، ما يعني أن المتبقي 30% وهو هو ما بات يؤرق المواطنين هناك ويشكل لهم هاجسا كبيرا.

وعلى نفس التوجه تم البدء بمشروع الرصف في عزلة شليف، وبالتحديد في عقبة المسجد من الأسفل إلى الأعلى بطول 165 متر، وعرض 4 متر.

كما شارك جميع الأهالي كلا حسب قدرته، فمنهم من قدم المساهمة المالية، ومنهم من ساهم في توفير الوجبات الغذائية، وقد شارك ودعم بسخاء وعطاء لا حدود له، أولاد الشيخ طاهر إسماعيل الشجاع، الشيخ بكيل عبد الرزاق المجيدي، الشيخ فيصل عبد الرزاق المجيدي، صادق عبد الوهاب لطف القاضي، الشيخ نشوان عبد الكريم الحميدي، إبراهيم هزاع الكامل، والمهندس عارف الشجاع واخوانه.

يطالب عبدالرحمن العمراني، المشرف الميداني للمبادرة المجتمعية، المجلس المحلي بالدعم لاستكمال بقية الطريق والمقدرة بـ 800 متر مربع طولي وبعرض 4 متر، من الرهيمي حتى العبري بتكلفة تصل إلى 21 مليون وخمسمائة ريال.

وأشار العمراني أن المغتربين قد ساهموا بنسبة كبيرة طوال السنوات الماضية وما يزالوا، لكن الوضع الراهن قد أثقل كاهلهم .. مثمنا في ذات الصدد جهود الشاب ناصر ونجاح حلمه ومشروعه الاجتماعي الخيري الإنساني.

وأكد العمراني أن طريق المنطقة ليست ترفا إنما للضرورة القصوى، فهو يصل شرعب السلام بمديرتي مذيخرة وفرع العدين.

ويستفيد من المبادرة والطريق المناطق التالية، الزنجي، العنوة، القصيع، الوادي، الشرف، الصناع، شلف التي تربط ثلاث محافظات، وكذلك مناطق الافيوش، مذيخرة، الأمجاد، وشرعب في محافظة تعز.

  •  شقائق الرجال .. رفيقات النجاح

لعبت المرأة هناك دورا حيويا بارزا في إنجاح المبادرة، وساهمت بالجزء الأكبر و الأوفر، حيث استمرت لمدة ثلاث سنوات بتقديم الوجبات الغذائية للعمال بلا كلل أو ملل، وما تزال هناك شريكة الرجل في الكفاح ومجابهة قسوة الحياة وقهر البيئة الصلفة.

  •  العودة

أثناء العودة التهمت الطريق القاسية والعقبات الكأداء الضوء، كان قرص الشمس ملقيا على عتبات الجبال الممتدة في الأفق بيد أن نقيل ” المسجدين” ابتلعه، وما كدنا نخرج من بين امعائه، حتى استدرجتنا سائلة القاسمية التي امتدت فوق مقدار تحملنا، حتى خلناها لا تنتهي، وظن البعض أن لا نهاية لها، وما إن افلتنا من شباكها حتى مد لنا الخط الاسفلتي يد المساعدة، وهناك جرفنا بقوة إلى ما يشبه العودة لخط الرحلة الطبيعي بعد أن هدنا الإعياء والتعب، لنصل إلى إب النائمة منذ طالها السأم، جثثا هامدة مهدودة لا تقوى على شيء.