حكايا جدتي

 (حزاوي) 1
قصص من الأدب الشعبي


إب7 press
أميمة راجح

 

جدتي امرأة نادرة، ترتسم على وجهها تجاعيد مبتسمة كأنما حرثتها كما فعلت هي بالأرض، وجهها العريض وجبهتها المستوية يتحدثان عن جمال أكله الزمن، عيونها الحادة دليل ملموس على الحكمة اللامتناهية، أنفها الشامخ يشبهها تماما، تأملتها لبرهة، ولاح لي بصيص أمل في أن أشابهها ولو بشامة بارزة على عنقها.

 

رفعت سجادة الصلاة ثم ربطت الجديلتين المتدليتين على صدرها المترهل معا ورمتهما للخلف بحركة واحدة، وربتت على رأسي معلنة بداية الحكاية قائلة:

 

كان يا مكان في قديم الزمان، في سالف العصر والأوان، كانت تعيش في رأس قريتنا شريفة وحيدة اسمها ” حُسن ” وشكلت شفتيها الشاحبتين دائرة صغيرة تعبر عن ضم الحاء، عينها اليمنى زرقاء وعينها اليسرى خضراء -كان صوتها في هذه الجملة مخيف ككهف مظلم-، وكان أهل القرية يطعمونها مما يأكلون بحب وكرم دائم، يملئون جرتها باللبن وصرتها باللحوح والمحشوش، وكانت حُسن تجازيهم بالحجابات والدعوات وشفاء مرضاهم بلعابها المنثور فوقهم، إلى أن اختفت حُسن فجأة.

 

فتش عنها أهل القرية في كل مكان سبعة أيام بلياليها ولم يجدوا إلا شيلتها* الحمراء بفعل أشعة الشمس، فظن أهل القرية أن مَلك ما رفع ” حُسن “التقية للسماء، وقلن النسوة اللواتي كان رجالهن يمدحون جمالها ويبتغون وصالها أن جنيا من أبناء إبليس تلاخطها* فهي تتباهى بنفسها أمام المرآة التي ورثتها عن جدها -الضابط العثماني الذي رفض العودة لبلده منذ ما يقارب القرن-، وقلن نسوة ساذجات أنها شريفة تملك مواهب الاختفاء لتزور بيوت القرية، وتحصنها بنفثاتها الطاهرة.

 

وهكذا بقي الأمر في جدل عاما كاملا، ولما كاد أهل القرية ينسون أمرها عادت” حُسن ” تعرج بثياب ممزقة، وشعر منكوش ومسابح تلتف حول عنقها كالثعابين، تطرق البيوت وتطلب الطعام، وتتنبأ بأن رجلا سيأتي من هذه القرية يحكم الأرض قاطبة بالعدل المبين، وكانت لها مواهب جديدة كأن تخرج من بطون الفتيات العذراوات أسحارا، وطلاسم* أسقوهن إياها العشاق -حسب ما تدعي-، وتنقش فوق فروج المتزوجات حروفا غير مفهومة؛ لينجبن الذكور دون الإناث، وصدقها جميعهم ولم يسألها أحدا أين الغياب؟.

 

حتى قررت حليمة – وهي راعية أغنام تطوف الوديان كل يوم، صادقة و ودودة يحبها الجميع- أن تكشف سر ” حُسن ” الدفين، قالت للجميع “الشريفة حُسن تزوجت ماردا من مردة سليمان المصفدين في قماقم، وأنجبت طفلا نصفه أنسي ونصفه جني، يسكن مغارةً بعيدةً في وادي خطير أسفل الجبل، وهي تمهد للناس ظهوره، تكتب التعويذات المعقدة ليقتادوا خلفها.

 

وأضافت، الشريفة” حُسن ” تصلي للشيطان في المقبرة عارية، الشريفة حُسن ليست شريفة كما تبدو.”

 

لكن أهل القرية ضربوا حليمة حتى الموت -وتراخى صوت جدتي في شجن وحزن عميق- وتابعت: حليمة تزعجهم تحاول إيقاظهم من سباتهم اللذيذ -وكان الغضب مكبوت في صوتها هذه المرة-، ثم  رموا جثتها من أعلى الجبل، وتوجهوا نحو منزل ” حُسن ” طافوا حوله سبعة، واشتروا الحجابات وعادوا ليناموا ككل يوم.

 

انحنت جدتي نحوي، حاوطتني رائحتها المضمخة بالحناء والمشقر*، وقالت لي بحزم: علينا أن نبحث عن بقايا حليمة، علينا يا صغيرتي أن نثأر لها، أن نطرق رؤوس الناس، الآن الآن قبل فوات الأوان، قبل أن تستعبد حجابات ” حُسن ” ضعاف النفوس.

 

ارتجفت من حرارة كلماتها، ورأيت ” حُسن ” -من سيصدقني؟- تتوعدني، وسمعت صوتها الشرير المفعم بالخديعة يموج بجدران الغرفة في ضحكة صاخبة واثقة، فقلت لجدتي بصوت مذعور: لكن ” حُسن ” لا تزال هنا،  وتشبثت بها.

 

_________________________________________________________________ 

هامش المفردات الشعبية :

* المحشوش لحم يطبخ ثم يعالج بطريقه معينه ليبقى محفوظ فتره طويله دون الحاجة لتبريد.

* الحجابات جمع حجاب وهي نوع من الطلاسم التي يكتبها السحرة ويعلقها أصحابها لعدة اسباب كالحماية مثلا من العيون الشريرة.

* الشيلة وشاح أسود طويل عريض يرتدينه النسوة في بعض المناطق لتغطية وجوههن وصدورهن وأجزاء من ظهورهن ومؤخراتهن.

* يتلاخطوها أي يتخطفوها ويأكلوا لحمها.

*الطلاسم أوراق خاصة مكتوب فيها تعاويذ سحرية، تلف بعناية لتكون صغيرة للغاية يسهل دسها، لكنها طويلة جدا كل كلماتها تخلو من النقاط.

* المشقر نبات عطري تستخدمه النساء لتزيين شعرهن، وتطييب ملابسهن.