حكومية برسوم أهلية

إب7 Press
طاهر الزهيري

“تنقلت ما بين ثلاث مدارس حكومية” هكذا تبدأ قصتها وتضيف ” سالي ” ذات السابعة عشر من عمرها، “قصفت مدرستي الأولى وانتقلت إلى أخرى بعد ذلك تحولت فصولها إلى ملاجئ للنازحين من محافظتي تعز والحديدة، ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى، كان حلمي أن أنتقل إلى مدرسة خاصة، لما أسمع عن تلك المدارس من تعليم أفضل وميزات أرقى ومواصلات تأخذ الطلبة وزي جميل وأنشطة متنوعة، يخيل لي أن الفرق شاسع بين التعليم الحكومي والخاص، وابرز ما يعلق في ذهني المال، الذي ينقصنا نحن في أسرتي، فنحن أربعة أخوة أنا الثانية بعد أخ يكبرني بعام وأخوين أصغر مني، أمي ربة منزل أمية وابي عامل بالأجر اليومي بعد أن أنقطع راتبه منذ بداية الحرب، ووضعنا المادي صعب للغاية فنحن أحيانا نذهب لمدارسنا دون مصروف يومي ونكتفي بما تعمله لنا أمي من أكل منزلي في حقائبنا المدرسية، هذا عندما كنت أدرس…!

كشف تقرير لمركز الدراسات والإعلام التربوي (منظمة مستقلة) عن أن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين طفل حُرِموا من مواصلة التعليم في العام الدراسي 2016 – 2017 بسبب إغلاق المدارس والتدمير الذي تعرضت له المئات منها، بالإضافة إلى تحويل المئات منها إلى ثكنات عسكرية ومراكز إيواء لاجئين وفارين من الحرب، فضلاً عن المخاطر الأمنية التي تتهدد الأطفال.

تواصل ” سالي ” سرد قصتها: ” طلب مني 5000 ريال مقابل رسوم التسجيل، وقالت إدارة المدرسة كما تعلمون لابد من دفع الرسوم ومبلغ شهري لنستطيع أن نعطي رواتب للمدرسين في ظل انقطاع رواتبهم بسبب الحرب وتبعاتها، هكذا تبلغون أولياء أموركم.

بعد أن رجعت أنا وأخوتي من مدارسنا وكلٌ منا يطلب مبلغ رسوم التسجيل، تغيرت ملامح أبي، وتضجرت أمي وقالت لو كان مطلوب منك فقط كنا دفعنا ولكن حتى من أخوتك وأبوكم كما تعلمون يعمل يوم وايام لا يجد عمل”.

استطاع أبي وخلال يومين أن يجمع رسوم تسجيلنا في المدارس الحكومية، وبعد ذلك أخي طلب مبلغاً من المال مقابل تسليم المدرسة له الكتب الدراسية، وأخي الأخر طلب مبلغ 1000 ريال مقابل رسوم نظافة لعاملة النظافة في المدرسة، أما أخي الأكبر فقد عمل مشكلة مع أحد زملائه وتم طردهم وفصلهم من المدرسة ولن تقبل عودتهم إلا بدفع مبلغ 10 ألف ريال لكل واحد منهم، بعد طلبات أخوتي خجلت أنا أن أقول لوالدي أني بحاجة لزي مدرسي جديد، إلى جانب أنه مطلوب مني عمل وسيلة علمية وأحتاج لأوراق وأقلام وألوان..

أمي باعت من ذهبها لتوفر لنا كل ذلك، كي نواصل تعليمنا، لكن طلباتنا كانت مستمرة كل شهر، بل على الأصح طلبات المدارس التي ندرس فيها، من رسوم شهرية كرواتب للمدرسين، ورسوم نظافة، وعقوبات تفرض مادياً، ومع ذلك لم تعد الدراسة كما كانت فأخوتي مثلاً يدرسون من حصة إلى ثلاث أو أربع حصص بالكثير ويعودون باكراً للبيت ولم يعودوا يهتمون للمذاكرة أو يؤدون واجباتهم المدرسية، ويقولون لأمي أن المعلمين يتغيبون كثيراً وان الدراسة أصبحت مجرد لعبة وضياع وقت..

أخي الأكبر ترك التعليم والتحق بعمل إصلاح السيارات مع أحد جيراننا المهندسين، أما أخوتي الأصغر مني فقد فرض عليهم أبي العمل والتعليم، أحدهم يبيع البيض في المدرسة والآخر الجلجل ” السمسم ” وأبي يحاسبهم كل نهار بعد عودتهم من المدرسة وتحولوا من طلاب في المدرسة لباعة متجولين في المدارس وتركوا التعليم بموافقة والدي ورفض أمي واستيائها من ذلك..

أنا بقيت وحدي من أتعلم، استيقظ كل صباح للذهاب لمدرستي، وأدفع كل شهر مبلغ ألف ريال بالإضافة لرسوم الامتحانات الشهرية وحق النظافة وأحياناً أحتاج لشراء بعض الوسائل التعليمية للمشاركة في الأنشطة المدرسية، كل تلك المصاريف يتحملها والداي بمساعدة أخوتي الذين أصبحوا يعملون ويساعدون والدي في صرفة المنزل.

صديقتي ” غيداء ” لم تستطع دفع رسوم أحد الشهور وكذلك رسوم الامتحانات والنظافة، وكانت تتحرج كثيراً عند مطالبتها بذلك من قبل الإدارة وتوبيخها، وقالت لي في آخر يوم تحضر فيه للمدرسة، سوف أتوقف عن التعليم، لم يعد والدي قادراً على دفع أي مبلغ حتى مصروفي المدرسي لم أعد أحصل عليه هذا العام، إلى جانب أن أمي أبلغتني بأن هناك عريس سوف يتقدم لي وقد فاتح والدي بالموضوع”

وهكذا بات من الصعب على بعض أولياء الأمور توفير الرسوم المدرسية ومستلزمات التعليم، فحرم من التعليم أبناء بعض الأسر، وكثرت عمالة الأطفال وتزويج القاصرات.

منظمة “سياج” لحماية الطفولة، اعتبرت الإجراء الذي اتخذته المدارس الحكومية بفرض رسوم دراسية على الطلاب في هذه الظروف، سبباً في زيادة نسبة الأطفال التاركين للمدارس قسريا، وقدرت فقدان أكثر من ثلاثة ملايين طفل يمني حقهم في التعليم، وأن العدد مرشح للتزايد.

وحذرت من خطورة الوضع الكارثي للتعليم في اليمن، الذي قالت إنه ما لم يتم تداركه فإن كلمة “كارثي” ستكون قليلة جدا على الوضع الأمني والتنموي لليمن مستقبلا.

من جانبه يوضح مكتب التربية في محافظة إب أن المبالغ المطلوبة من الطلاب واولياء أمورهم هي طوعية وليست إجبارية، فيما ينفي بعض أولياء الأمور والطلبة تلك المزاعم.

المعلمة سماح تقول: ” ليس هناك رواتب وأنا أسكن في منطقة بعيدة عن المدرسة وأحتاج مبلغ يومي للمواصلات من بيتي للمدرسة وليس لدي تكاليف المواصلات على الأقل يومياً لذلك أحضر للتدريس أيام وأغيب أيام حسب توفر المادة لدي، واضطررت للعمل في الخياطة لكسب المال والعيش وأصبحت أدرس بالمجان حباً في ذلك وخدمة لبلدي وللعلم”.

فتون أسم مستعار لمعلمة أخرى أصبحت تعمل كعاملة نظافة في أحد المطاعم، تقول: ” لقد جعنا بعد انقطاع الراتب وتبهذلنا وصبرنا سنة وسنتين وثلاث ولم تنته الحرب ولا يتغير الوضع فاضطررنا للعمل في أي مجال أخر، في وقت من الأوقات أصبحنا كالمتسولين ننتظر بعض المتصدقين على المعلمين وبعض السلال الغذائية من قبل بعض الجهات والمنظمات، لقد تركت المدرسة وأبلغوني بأنهم سوف يقومون بفصلي واستبدال مدرسة أخرى، كنت أخاف من حدوث ذلك فيما مضى  أما الآن فقد تبدد خوفي ولم يعد يهمني ذلك”.

الأخصائية الاجتماعية ” ياسمين محمد” تعمل في إحدى المدارس الحكومية في إب تقول: ” المدرسون والمدرسات تعبوا من الوضع الحالي في ظل انقطاع الرواتب، وأولياء الأمور والطلبة تعبوا من الرسوم والدفع المستمر ولو كانت المبالغ بسيطة، لكنهم يشعرون بأنه لم يعد تعليما حكوميا بل خاص مثله مثل المدارس الأهلية مع اختلاف المبالغ”.

تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”: مثّل انقطاع رواتب موظفي الخدمة المدنية أحد أكبر التحديات والذي كان له ولا يزال الأثر البالغ على إمكانية حصول الأطفال على التعليم في اليمن. ولم يحصل ما يقرب من ثلاثة أرباع معلمي المدارس الحكومية في 11 محافظة على رواتبهم على مدى أكثر من عامين دراسيين ما تسبب في تعطيل العملية التعليمية لحوالي 3,7 مليون طفل في هذه المحافظات”.

التعليم يعد شرطا أساسيا في أي مشروع يستهدف بناء السلام وإعادة الإعمار مستقبلاً، ولكن مع استمرار الحرب وانقطاع رواتب المعلمين فإن جودة التعليم أصبحت أيضا على المحك.

ومنذ اندلاع الحرب استفاد عدد محدود من المؤسسات التعليمية من إسهامات القطاع الخاص في تغطية تكاليف التشغيل أو رواتب المعلمين.

لم تعِ سالي ذات السابعة عشر سنة أنها وأخوتها سيواجهون الحرمان من التعليم بسبب فرض رسوم في المدارس الحكومية، فبعد أن كان شبه مجاني بمبلغ رمزي، أصبح الآن يفرض مبالغ شهرية على الطلاب.

بعد سنة من محاولة استكمال تعليم ” سالي ” انتشرت جائحة فيروس ” كورونا ” وتوقف التعليم وتوقفت الكثير من الأعمال، تقول ” سالي” أصبحت أتعلم ذاتيا ً في البيت من خلال قراءة الكتب والاطلاع والمشاهدة والبحث واستفدت كثيرا في هذه الفترة، ولكن لا أعلم أن كنت سأعود إلى المدرسة أم لا في ظل هذه الظروف الصعبة، والتعليم مقابل المال حتى في المدارس الحكومية.