إب7 press
نشوان النظاري

 

خرير الماء موسيقى الحياة ولحن الشجر والحجر. صوته الشجي ترانيم استقباليه باذخة بالحفاوة والألفة، تدفقه الحر والشجي على المنعطفات الحجرية والمسارب يشبه لوحة فنية حية تشي إلى فرح المروج ومداعبة الغيم للأرض والإنسان.
كُنا هناك حيث انبجاس الخضرة وتفشي الجمال واكتمال السحر، كُنا هناك حيث كل شيء على الفطرة الأولى، الانفعال الأول. التشكُل الايحائي البكر، فلم تصل هناك يد الحكومات مطلقا ولم يعبث جنون الانسان بالطبيعة وبقت كما هي تجاعيد الفصول وبصمات الاعوام وخشونة العيش.
كنا هناك في القرية المنسية التي اختزلت خيال الشاعر عمران هلال والهمته المضي في سرد المرويات المنفلتة من احجيات السحر الاسطوري والطبيعة، كُنت ومعي الزميلين طاهر الزهيري وجلال الدعري في مهمة تلبية دعوة هذا المزيج الطبي الأدبي الرائع – عمران – وقد كان لنا كالمرشد والحاكم وامير المنطقة.
  • مسجد محمد

بني قبل نحو عام على نفقة فاعل خير لكن حجمه متناهي الصغر وهو كذلك فصلا دراسيا تتعلم فيه نساء القرية القراءة والكتابة والقران وعلومه، وكذلك تم أنشاء أسفل المسجد خزان مائي للقرية يغديها لفترة محدودة اثناء فترة الشتاء والجفاف، ويحتاج هذا المسجد إلى توسعة لا سيما وقد أوقف ملاك الأراضي التي بجواره قطع أرض لصالح هذا المسجد وفي انتظار إسهام رجال الخير أو تدخل مكتب الأوقاف أو الجمعيات الخيرية والمبادرات الفاعلة.
  • قصص معاناة

يروي لنا السيد محمد البربري، على أعتاب العقد التاسع، سادن المسجد وكبير القرية وحكيمها وقديسها والاب الروحي للسكان هناك حكايته قبل بضع سنوات والتي تجسد مشقة الحياة في تلك القرية حيث لا طريقا سالكا لعبور السيارات أو الدراجات النارية سوى ما حفرته أقدام العابرين على مر الأيام لتصنع ما يشبه خيطا رفيعا يبدو السير من خلاله مجازفة محفوفة المخاطر.
يقول الحاج محمد بينما هو في طريقه للمدينة وبصحبته حمار خاصته وهو وسيلة النقل الوحيدة للقرية حيث كان ذاهبا لشراء كيسا من القمح انزلق الحمار إلى أسفل الجبل ليصل جثة هامدة وعندها واصل الحاج محمد السير صوب المدينة إذ لا خيار أمامه سوى المواصلة وعلى بعد نحو 10كم حمل كيس الدقيق فوق ظهره لساعات.
وفي إحدى الليالي سقطت القداحة الوحيدة لعمران إلى داخل الشلال وحُرِم من وجبة العشاء ومن متعة التدخين إذ من الصعب على اي أحد أن يجد في المكان أي شيء يبتاعه فلا محلات أو تجارة مطلقا حتى ان الأبناء لا يكترثون للعملات النقدية وليس لها عندهم ثمن.
من المهم هنا التذكير ان عدم وجود طريق للمنطقة كارثة وجودية فإذا تعرض أحدهم لمرض شديد فسيكون من الصعب بل ومن المستحيل إسعافه إلى أحد مشافي المدينة ناهيك عن وصول المواد الغذائية واسطوانات الغاز لمنازل القرية بصعوبة بالغة ومشقة مضنية لا حدود لها.
  • دار الجبل

دار الجبل اسم القرية، وقبل عام كانت مجهولة الاسم والحضور، بيد ان عمران ومنذ ان وطأة قدماه للمنطقة قبل نحو عام وبمعية السيد محمد البربري ابتكرا لها هذا الاسم وليس لها اسم سواه يجسد نمط الحياة وتقاسيم القرية إذ تبدو بمنازلها المتنوعة والمتواضعة كحكاية تائهة في ثنايا جبل شامخ عملاق.
  • خدعة وخيمة

كانت زيارتنا تلبية متأخرة لدعوة وجهت لنا منذ فترة من الزميل عمران هلال إلى أن الاشتياق هذه المرة لمذاق اللبن البلدي وخبز الشام المصنوع في تنور حطب جذبنا بقوة نحو الجبل في صباح غجري مدلل بيد ان الماكر وتحت قاعدة الضيف أسير المضيف نكث وعده وتنصل عم قطعه لنا لنجد أنفسنا بلا وجبة افطار ونحن في نقطة جغرافية منفصلة عن العالم، وهكذا لم نتذوق شيئا حتى الظهيرة.
  • سيدة عظيمة

يحظى عمران بامرأة عظيمة وسيدة منزل من الدرجة الاولى ، فالمنزل الكائن في اقاصي الغياب وعلى مسافة بعيدة من المدينة يتحلى بأناقة ونظافة وترتيب فني داخلي يبرز معالم أنثى مرتبة فنيا وفكريا وروحيا من الداخل ، ناهيك عن تقديرها لتاريخ زوجها المعلق على حيطان غرفة الاستقبال والمنمقة بتنويعة من الشهادات الطبية والأدبية والميداليات والاوسمة العديدة ، وعلاوة على ذلك كله ف ” أم وليم ” طاهية ماهرة وام مثالية حيث يتجلى ذلك في مظهر توأميها ” وليم ، ومريم ” وطريقة تعاملهما مع الضيوف ، أنهما يبدوان كمصابيح بهجة في منزل معتق بطهر السكينة و المحبة .
  • شلالات

على جانبي الشلالات المتدفقة جوار القرية ثمة فتيات ونسوة يتجمعن لغسل الملابس والبطانيات وفي الجهة المقابلة ثمة بركة نقية يتجدد فيها الماء باستمرار ويعدها أبناء القرى مسبحا ويقومون بالسباحة والاستجمام وقضاء امتع الأوقات مع الرفاق.
وفي كرلفان التدفق والجريان تنبعث حياة طاهرة صافية بريئة كابتسامة طفل توارى عن الأصدقاء خلف شجرة لا تخفي سرا حتى يزيل ملابسه الداخلية المبللة ويرتدي ملابس اخرى.
  • استحقاق

قرية دار الجبل تقع جغرافيا ضمن نطاق مديرية المشنة وهي في أمس الحاجة لمشاريع عاجلة كشق طريق عام وتوصيل المياه وتوسعة للمسجد و فتح مدرسة حتى للصفوف الدراسية الثلاثة الاولى حيث تبعد المدرسة كثيرا عن القرية، كما يمكن الاستفادة من الشلالات والطبيعة الجبلية في عمل سد مائي سيحول المنطقة إلى منتجع ونقطة جذب سياحي كبير.
  • عجائب

من عجائب المكان والمكان يبدو اعجوبة مغلقة بالدهشة ان القرية تطل على مدينة إب لكنها في اهتمام السلطات المحلية خارج حدود البلد ، وان الشمس لا تصل الى منزل عمران إلا وقت العصر ، وان أكثر النساء هناك تلد توأم بل لا يكاد يخلو منزلا في القرية إلا وفيه توأم ، كما لفت نظري عدم وجود الحيوانات الأليفة كم هي عادة الريف اليمني إذ لم أشاهد سوى كلبا واحدا وقطة واحدة ، والأعجب والأمر في كلما ذكر أن الأهالي يحتاجون لقطرة الماء في الشتاء فلا يجدون بالرغم من مرور أنبوب مائي عملاقة محمل بالمياه القادمة من مدينة إب لتزود القرى التي تقع أعلى قرية دار الجبل وبالتحديد قرى ريمان والمويه، ومن العجائب وجود اشجار نادرة كان قد جلبها د. عمران للقرية وقام بزراعتها في مناطق متفرقة وباتت مخزون سري لمركز ابحاثه الذي ينوي استكماله في قادم الأيام.
  • لحظات مائية ساحرة

انطلقنا للأعالي حيث يزداد صفاء الشلال ويتدفق بقوة أكبر واسندنا أجسادنا على صخرة كبيرة أبية لطالما قاومت هدير السيل وضجيج الشلال طوال عدة أشهر فغبنا في سحر الانسكاب الرقراق البارد حتى داهمتنا الساعات واستدعانا الجوع ، وعندها سلكنا طريقا صخريا شائكا حتى وصلنا الى مشارف القرية من الأعلى وهناك شاهدنا مزارع القات وأشجار التين والصنوبر وشجيرات ” خبز العنصر ” – لا أدري هل تاكل العصافير منها ام لا – والسدر ، القرناط ، والعديد من المزروعات والورد بجميع الوانه واشكاله، وعلى امتداد الطريق استقبلنا العم أمين بائع القات البلدي وهو بالمناسبة من السكان الأصليين وقد ادخلنا لمنزله الحديث واكرمنا بكوب من الشاي ذو النكهة الطيبة كطيبة روحه المضمخة بالطيبة والبساطة .
  • كورونا

في زمن الجائحة قد يبدو هذا المكان الأكثر أمنا فلا أحد هناك يكترث لذلك ولا توجد محاذير أو إجراءات احترازية أو وقائية، بل ان كبير القرية قال ان هذا المرض قد مر على القرية قبل أشهر وأنه زار جميع المنازل وخرج يجر اذيال الهزيمة.
  • ضمور

في الشتاء تموت الحياة هناك ويرحل الماء وتضيع الابتسامة ويبقى الجدب والعطش والضمور الوجداني المنكسر سيد المكان، في الشتاء البارد ثمة رياح صاخبة وصقيع عنيف وخفوت وانكفاء.
  • مغادرة

عندما تدلت خيوط الشمس عصرا وشرعت بملامسة النوافذ كانت الريح تعبث بالشجرة الجميلة التي تطوق المنزل وتزينه حتى أنها كادت أن تقتلعها – أو خيل لي ذلك – ، طلبنا الإذن بالمغادرة لكن كيف لأحدهم مغادرة منزل طبيب اعشاب خالي الوفاض ، لقد منحنا د. عمران أدوية للمعدة والبواسير والسعال ومركب لحماية الشعر ومستحضرات طبيعية أخرى .
  • حصيلة

لقد كانت رحلتنا الصحفية للمنطقة شاقة للغاية لا سيما في ظل انعدام الطريق وصعوبة السير لكننا اكتشفنا هذه المنطقة التي ما تزال خارج حسابات الحكومات والثورات والخدمات الأساسية للحياة. لا مركز صحي أو مدرسة أو طريق أو أي شيء يذكر سوى كفاح الانسان المثابر لخلق حياة كريمة ولو بأقل المواصفات وادنى الاحتياجات ليبقى الانسان العصامي هناك صائد ماهر للسعادة وأسطورة في إتقان الصمود وخرافي في تجليات ليالي رمضان الصوفية.
\
  • تحية ختامية

عند العودة وقبل أن تنال أجسادنا قسطا من الراحة وهي من الفت حياة المدن ولم تعد تقوى على الجبل كان الزميل عمران هلال قد ابرق لنا وعبر تطبيق الواتساب رسالة وداع قال فيها:
شكرا لكل القادمين بصبح ربي نحونا
يتعسسون خطى الطريق على الممر.
ويسألون بنا الدروب مع القلوب مع الشجر.
السالكين لكوخنا
العابرين لبيتنا
الداخلين بحلفنا حلف الماء والعشب المنمق واستراحات النظر.
شكرا و يا اهلا بكم،
لحياتنا القروية الحجرية الصخرية الحلوة المرة.
شكرا لاسمنكم واثخنكم واحذقكم واخطركم ذك الذي
بحنكة الصحفي وفي التساؤل قد حضر
ليبدي ما يخفي ويسال
ما القدر..