#افياء_الجمعة

عروان .. حميمية المكان وغربة الروح
إب 7 برس Ibb7press

يكتبها هذه الجمعة: نشوان النظاري

 

بوفية عروان، ملاذ الصحفيين والإعلاميين أوقات الكساد، وملتقى الجميع أثناء الركود، هنا فقط تشعر بحميمية المكان، وغربة الروح ومساحة شاسعة من الضياع، إذ لا يمنحنا الكثير من الشاي والدخان، بالطبع الرديء ورخيص الثمن، سوى هدر العمر على أرصفة الشتات والضمور الوجودي.

 

ثمة إعلاميين من النادر تجدهم هنا، هم اقطاعيات إعلامية ناعمة، يستحوذون على أغلب الفعاليات بالمحافظة، هم جزء من المنظومة الحاكمة والجهاز الإعلامي للنظام الحاكم، لكنهم رغم ذلك طيبون ونحن نكن لهم الكثير من الحب والتقدير إذ يمكنك قبيل الظهر دس يدك في جيب أحدهم والخروج بما يمكنك ملأ فمك من وريقات القات على أمل أن الغد سيكون أفضل،لكن الغد لن يأتي إلا بما هو أسوأ، وأسوأ بلا هوادة.

 

أقسى الصور التي رسمها تشيخوف في مسرحية الخال فانيا، هي صورة ” ضياع العمر ” بكل أشكاله، فأنت تمضي أفضل سنوات عمرك في انتظار حدوث أمر ما، وأنت تعلم أن نسبة حدوثه تتساوى مع نسبة نجاحك بالذهاب للمُذنب هالي سيرا على الأقدام، ورغم هذا تقنع نفسك أن الغد فيه كُل الأمنيات ستتحقق.

 

لا تخلو عروان من أدباء وزوار وناشطين بحجم أحمد طارش وعبد الله الكامل والثلاثي المشاكس والأنيق مراد البناء وفؤاد المليكي وخالد الأنس، وكوكبة من المثقفين وعددا ممن هجروا المهنة وأصبح المجال هناك سانحا لهم للتندر والهزء وأخذ قسطا من الوقوف على الأطلال.

 

حتى عصام لطف بكل ما يحمله من تناقضات وجنون و” دهشه” يجلس على الدكة رفقة نجله الأكبر، لن تفوته مشاركة اللفيف متعة الهدر والتلاشي والعدمية، ولن يعبر أحد دون أن يدون على إيقاع الزمن المثقوب حكايا الهروب وسنوات العمر الكسيحة.

 

هكذا نمضي، وتمضي يومياتنا مثقلة برتابة وذبول وحصار الشعر الأبيض الذي يتسلل في لحظات الغفلة القلقة نحو تفاصيل الوجوه المستعارة وتنمو فيها احافير واخاديد الزمن الخطيئة ووصمة الوضع البائس.

 

الجميع هنا، منذ الصباح الباكر يلقون بأجسادهم المثخنة بأعباء الضغوطات النفسية والمعيشية فوق طاولات لا ترحم، في الجوار يجلس خالد، ويليه عادل، سليمان، هشام عبدالوارث، وياسر ووليد، وأحيانا فهد وعبدالخالق، والجميع سيوف يأتي تباعا لا شك في ذلك.

 

تعقد هنا صفقات، وتتسرب معلومات خفية حول ما يدور في مبنى المحافظة، المبنى المجوف والمليء بعجائب الكون، وكلاء يدورون في فلك المساحات الرخوة، وآخرون يسيرون خلف الأسوار والعدد في تزايد وتضخم بشكل هستيري باعث للأسى والسخرية، وكأننا أمام مشهد رمادي شارد من سرديات الكوميديا السوداء.

 

لا يمكن تصنيف عروان أنها نقطة تجمع سياسي، إذ يصعب تصور ذلك، فالمكان ليس محميا بما فيه الكفاية ولا يؤهل حتى للنقاش العام، وتبقى النكات العابرة هي جرعة النسيان، والضحكات الباردة وقود الضياع والتيه والخذلان.

 

يتمتع عمال وموظفو تلك البوفيه بحس فكاهي وطول نفس وقدرة هائلة على التماهي في الأوساط المختلفة والمعقدة، لقد نجحوا في اختراقنا على نحو فظيع، وباتوا جزءا من ذلك السديم العائم في ملكوت الوجوم والحيرة، كما أنهم الأفضل في توفير قروض الوجبات الخفيفة وهذه واحدة ربما من أهم سمات المكان، بالإضافة إلى ما صنعته اليوميات من ألفة وشوق لتلك المقاعد الخشبية الخاملة.

 

دورة حياة تنهك العمر وتقتل الطموح، إذ لا جديد سوى الوهم يسلبنا أزهى أيام العمر، ويقذف بنا عند أقرب حافة نحو هاوية سحيقة.