حكايا جدتي

(حزاوي) 6
قصص من الأدب الشعبي

إب7 press
أميمة راجح

عدت للمنزل منهكة، محبطة جلست بجوار جدتي واتكأت على كتفها وانتحبت.

ضمتني بذراعها، لم تواسيني ولم أسمع دعواتها لي بالتعويض بعد خسارتي للعمل الذي حصلت عليه بصعوبة، وعوضا عنه بدأت تسرد لي حكاية جميلة ككل مرة.

تقول جدتي:

سيطر الحزن على شفاه البشر، حنط وجوههم، وسلبها البريق في المغبونة -وهي قرية بعيدة عن صخب العالم-.

 يجلس كل يوم أهلها على مشارفها ينتظرون السعادة ولا شيء آخر لديهم ليفعلوه يشربون من النهر الصغير الذي يقسم قريتهم نصفين ويأكلون من ثمار الأشجار على ضفتيه وينتظرون ينتظرون.

استمر حزنهم عقود وعقود ولا يدري أحد عن سبب الحزن العتيق، ووحدها الشائعات تقول أنها لعنة أصابت القرية منذ زمن بعيد.

الحب مات في أحد منحدرات الحزن العميقة، وتلبست القلوب جلودا من حجارة وطين وتبلدت الرغبة بمقاومة المشاعر السلبية العنيفة لدى الجميع باستثناء مُلهم -شاب صغير طموح يعيش وحيدا- والذي يحلم أن يغادر القرية الحزينة، ويرى شكل الوجوه السعيدة.

ملهم لا يملك مالا كافيا للسفر لذا قرر إنتاجه، فتش أرجاء القرية، درس متطلبات الناس وحاجياتهم وأكتشف عوزهم الشديد للضحكات لذا افتتح متجرا لبيع الضحكات في قريته.

اعتلى الإستنكار  ملامحي ولف صرخاتي وقلت:

يبيع الضحكات!

تبسمت، التجاعيد حول عينيها، وشفتيها اذابا همي.

وتابعت:

 كان الأمر صعبا، لكن بكثير من المثابرة استطاع ابتكار طريقة ما لتجميع الضحكات في علب زجاجية خاصة محكمة الإغلاق جاهزة للبيع، زين واجهة محله بشفاه مبتسمة تخيلها ورسمها بمشقة، ولم يجازف برسم وجه كامل مبتسم لئلا يحاربه الأصدقاء قبل الأعداء، ثم أخيرا خرج حاملا جرسا صغيرا للفت الانتباه وبدأ الصراخ:

في متجرنا ابتسامات أطفال عذبة، ضحكات فتيات يافعات، وضحكة رجل أربعيني متزنة ومبحوحة، قهقهات عجائز طيبات وأخرى لشريرات، في متجرنا حصريا يمكنكم الإستماع لآخر صيحات الضحكات المغرية، المبكية، ضحكات الكبرياء، والدعابة.

في متجر ملهم للضحكات كل شيء يضحك.

 لم يعره أحدا الإهتمام لكن استمراره حث خطاهم نحو متجره للفرجة والسخرية أولا ومع الوقت صار الناس يبتاعون منه خلسة ، ضحكة تتلوها ضحكة.

لم يصدق أحدا أن شابا طموحا باع يوما ما الضحكات لأناس بائسين يعتنقون الحزن ويقدسونه ويستسلمون له لكن هذا ما حدث بالفعل في المغبونة.

ضحكت بصوت عال وعلقت:

ملهمك هذا

بكم سيبيع ضحكتي؟

قالت: ضحكتك غالية يا حبيبة، ضحكتك حقيقية وصادقة يازبيبتي لا تباع ولا تشترى.

ثم تابعت حكايتها العجيبة:

استمر بائع الضحكات في عمله، توقف الناس عن الانتظار، استهلكوا الضحكات بأعداد كبيرة، وخفت الحزن من عيونهم شيئا فشيئا.

أما تاجرهم صار أغنى رجل بالقرية، صار يملك مئات الدجاجات والأغنام وحقول شاسعة دفعها الأهالي ثمنا لبضاعته الفاخرة؛ فقرر إغلاق المتجر وتحقيق حلمه أخيرا.

بعد أيام تجمع الأهالي أمام بوابة متجر ملهم للضحكات محتجين وغاضبين من قرار إغلاقه التعسفي، رفعوا لافتات ضخمة مكتوب عليها

” لا للإغلاق” ،

“الأهالي بحاجة ماسة للضحكات”،

“إغلاق المتجر سيتسبب بحالات اكتئاب حادة”،

“ستعود السعادة من حيث أتت بسبب إغلاق المتجر”.

إلا أن ملهم لم يكن موجودا ولم يرى أي واحدة من هذه اللافتات، تلك اللحظة وصل للمدينة الصاخبة والمتبلدة بقطيع أغنامه الكبير جدا وبدجاجاته الكثيرة، ينوي بيعهن والإستقرار في المدينة بعيدا عن المغبونة وأهلها البؤساء.

باع قطيعه ودجاجه بمبلغ طائل واشترى منزل جميل للغاية تحوطه أشجار الفواكه.

 خلال سنوات غير قليلة تعرف على جيرانه الغرباء بصعوبة، وكون صداقات لا بأس بها في حارته لكنه للأسف لم يجد السعادة التي هاجر لأجلها، ولا الأمور المذهلة والمدهشة التي تخيلها، وجد عوضا عنها المتسولين، وأطفال الشوارع واللصوص والفاسدين والمحتالين، لقد افتقد الأمان العظيم في قريته وطيبة الناس وسذاجتهم، وافتقد متجره والضحكات التي كان يبيعها وعند تذكره هذه اللحظات، ضحك ملهم بشدة ضحك وضحك باستمرار للمرة الأولى في حياته يكتشف أن بإمكانه أن يضحك ضحكة طبيعية خالية من المواد الإصطناعية!.

استئت من توقف جدتي المفاجئ وسألتها:

هل يعقل أن انسان ما على وجه هذه الأرض يجهل قدرته على الضحك؟

جدتي قولي شيئا معقولا.

وبختني جدتي بعينيها، وحدة نظراتهما وقالت:

رهبة الإكتشاف جعلت ملهم يمضي نحو قريته دون تفكير بعد غياب سنوات طويلة.

أول ما لاحظه أن لا بشر في انتظار القادمين،

– أين ذهب الناس؟ هكذا سأل نفسه.

ثم تلك البيوت الجديدة والجميلة المنتشرة على ضفتي النهر تحفها الحدائق بالغة الترتيب والتنسيق.

كيف جاءت؟

 وأخيرا قابل طفل صغير مبتسما وسعيدا.

“يا للهول طفل سعيد في قريتي”

هذا ما همس به ملهم لنفسه مشدوها.

جلس بجوار الطفل وسأله:

ما اسمك؟

قال الطفل: ملهم، اسمتني أمي تيمنا برجل عظيم، صنع لأجل قريتنا معجزة ما خلصتها من لعنة قديمة وبائدة، كان ساحرا وفنانا حتى يومنا هذا لم يستطع أحد اكتشاف كيف صنع جلب السعادة لقلوب الأهالي.

ضم يديه الصغيرتين بتأثر بالغ وقال متحمسا: قالت أمي إنه كان يصنع الضحكات هل يمكنك تخيل هذا؟

ذهل ملهم مما سمع وقال متوجسا:

وأين ذهب؟

تلاشت ابتسامة ملهم الصغير وقال: لا ندري

ربما حلت به اللعنة وحده ومات مضحيا بنفسه لتستعيد القرية حقها في السعادة للأبد.

وقف ملهم غاضبا من نفسه كيف فعل هذا بأهله وجعلهم يحزنون لأجل موته المزعوم.

 قرر أن يحكي للأهالي كل شيء، وأطرق ملهم رأسه مفكرا وقال محدثا نفسه: لا ليس كل شيء، يجب أن لا يعلم أحد كيف تصنع الضحكات، يجب أن يتعلموا فقط كيف تولد من داخلهم كما حدث معي مؤخرا.

قبل ملهم الطفل الصغير وشده من يده واتجه بخطوات واثقة نحو سوق قريتهم الذي يبيع كل شيء إلا الضحكات، توسط السوق ثم صرخ:

في متجرنا ابتسامات أطفال عذبة، ضحكات فتيات يافعات، وضحكة رجل أربعيني متزنة ومبحوحة، قهقهات عجائز طيبات وأخرى لشريرات، في متجرنا حصريا يمكنكم الإستماع لآخر صيحات الضحكات المغرية، المبكية، ضحكات الكبرياء، والدعابة.

في متجر ملهم  للضحكات كل شيء يضحك.

خلال ثوان فقط إلتف حوله الجميع، الرجال وكبار السن النساء والفتيات والأطفال فرحين بقدومه يرددون بجذل:

عاد ملهم.

 عاد ملهم.

عاد بائع الضحكات

 مرحبا به

 مرحبا به.

ترقرقت الدموع في عيونهم، وارتسمت ابتسامات صادقة على وجوههم وصمتوا جميعهم بانتظار حكاية ملهم.

تحدث ملهم، مشاعره تضغط على حباله الصوتية بقوة قائلا:

منذ الآن لن أغادر قريتنا أبدا، عدت لأشارككم سعادتكم والضحكة الحقيقية النابعة من أعماقكم.

ثم انتحب، بكى كل شيء فهمه وكل شيء لم يفهمه، وعاد لمنزله القديم أغلق الغرفة التي كان يصنع داخلها الضحكات ثم رمى مفتاحها في النهر وقال لحقوله الشاسعة: منذ الآن لا أحد سيبيع السعادة ولا أحد سيصنع الضحكات.

قلت معترضة: جدتي لما لم يخبرنا كيف صنع الضحكات، ما السر؟

قالت جدتي تحنو عليا كلماتها: حبيبتي أدرك بطلنا المدهش أن السعادة حق لكل الناس وأنه لو علم أحد ما كيف يصنع الضحكات لبقي الناس مرتهنون للحزن حتى تنتهي البشرية تماما، وهذا بالتأكيد لن يجعله سعيدا.

انهت جدتي الحكاية وأنا أواجه انعكاس وجهي بالمرآة، تلمست تحت عيني وقلت:

القادم أفضل يا جدتي، لا شيء يستحق أن أبيع لأجله سعادتي.

ابتسمت جدتي أخرجت من جيب قميصها مبلغا من المال، وضعته بين يدي وقالت: اصنعي متجرك الخاص بيعي فيه أي شيء إلا الضحكات فهي لاتباع بل تولد.

استعدت مرحي أخيرا وقلت:

جدتي أنت فعلا بعتي لي الآن السعادة والضحكات والفرح دفعة واحدة هههههههههه.