شذاب ومشقر في جعبة الحنين

إب7 press
أميمة راجح
أدب شعبي

حوش البيت كبير بما يكفي لأن أضع فيه خمسين نقيلة ” شذاب، مشقر، نعنعه، بردقوشة “، وكل ما تشتهي نفسي وتذكرني به، كل نقيلة أسميها بسنة من عمري معه، الشذاب بالذات سيكون خلاصة الخامسة والعشرون، والمشقر ” الحماحم ” سيكون خلاصة السادسة والعشرون، وحين يُزهران أرسلهن لقبره وارش فوقهن ماء الورد ” جعل قبره جنة تحت الأرض، ودفئ عظامه “.

  • بين أنياب الذكرى

على طريق المراحل، بالتحديد قرب باب ” قوزع ” أو باب ” فرضة ” لا يهم، المهم أننا وقفنا أنا وهو على الدرجات التي عبدها أسعد الكامل نسلم على بعضنا، كنت أحمل حزمة الحطب فوق رأسي وألبس زنتي السوداء، أتوشح مقرمة سوداء وأنتعل قُنطرة ” حذاء ” بلاستيكية سوداء بينما كان هو يحمل الغوارب، ويلبس قميص الزراعة، ومتقبع بشاله المسيم يحمي رأسه من شمس علان قال لي وهو يغض الطرف: ” حيا الله بنت عمي ”

أجبت بحياء ” : حياك وقواك.

ثم انصرفت سريعا أجري هربا من قلبي أن يرميني نحوه كان ذلك آخر لقاء لنا قبل الزواج، يوم الزواج جاءتني ” ولاية ” المزينة وأنا في الوادي أجمع البن، قالت لي بسرور :” نقيلة هاتي شقى المحجرة ”

أتبعت جملتها بزغرودة جمعت كل الراعيات في الوادي حولنا وتابعت قولها على عجل ” اليوم نقيلة حريوه  نطلع ذلحين نحنيها ونشجب لها وبعد غداء الظهر نخرجها بيت عمها أبو قناف ” .

لم استوعب ماقالته، بل إنها بعد ذلك أمسكت بذراعي وسحبتني للبيت لأكتشف تلك الليلة حقا أني أصبحت زوجة ناجي الذي دفع بعد ذلك مهري مرتين.

  • حكاية مُقبلة

كل عام أتصدق بخروف كي يسامح الله ناجي على الذنب العظيم الذي ارتكبه بعلمي مرة وحيدة، حدث ذلك بعد زواجي بشهر حينما سرق ناجي خروف جارنا وذبحه ليلا وطلب مني أن أتبعه به مطبوخا لحيث زراعتنا، وهذا ماحدث بالفعل جهزته وحين وصلت منتصف الطريق سمعت ناجي يغني بصوت مرتفع قائلا:

ألا يامقبلة يا بنت مقبلاني

ألا ردي الغداء وأدي عليه زوماني

صاحب العنية داكي على الريداني

ألا لو ما فهمتي كلامي

لأرد شرطش ثاني …

وبالفعل وصلني مقصده وهو أن جارنا صاحب الخروف متواجد عنده ،وعدت أدراجي لأفاجئ بزوجة جارنا ذاك تسألني مستنكرة .. ما الذي عاد بك؟

قلت لها مرتبكة: نسيت البليزق ” اساور ” حقي عند النار جنب الصلى ” ملابس فضية ” خفت أفقدهم وهم تعرفي مهري ” .

ثم تجاوزتها على عجل وأبدلت مافي الصرة من اللحم باللحوح والبسباس، وحملت القهوة وذهبت لناجي الذي وفى بوعده ودفع لي المهر مرة أخرى.

  • زيارة المقبرة

قطفت الرياحين والمشاقر وكل تلك النباتات العطرية التي حرص ناجي على غرسها ووضعها كنقائل في حوش بيتنا وسطحه طيلة ثلاثون عام عشتها معه  وذلك لأن اسمي مشتق منها كما  كان يقول دوما، ثم ذهبت أحمل قارورة ماء الورد وماقطفته لزيارة قبره، جلست حافة القبر تمتمت بسورة الفاتحة ودعاء قصير بعد السلام وذرف دموع الشوق، وشكوت له من الوحدة ومرارة الفقد ولم تتوقف كلماتي إلا حين سمعت جارنا صاحب الخروف يقول:

سلام الله على مقبلة بنت مقبلاني.

اتسعت عيناي بصدمة مما يقول فهو يبدو عرف بالقصة القديمة فقلت له مستسلمة من فوري: المسامح كريم، والله ثم والله لأعوضك بثور بدلا عن الخروف، سامح الميت وخذ حقك مني.

ابتسم وخلل لحيته البيضاء بأصابعه المجعدة وقال لي : أبراه الله وسامحه وسامحك ،الخروف لم يكن لي بل هو خروف أبوك سرقناه أنا وناجي وناجي سرقه مني، كما تعرفين سارق السرقان سُرق .

لم يترك لي ولدي الوقت لاستيعاب ما يقول، سحبني برفق واركبني السيارة فاغرة فمي، وقال لي : خالي يقول لك خروف هذه السنة عليه، لأبي في ذمته خروف مطبوخ أخذه من غرفتك يوم كنتِ بالزراعة مع أبي .

قلت له بهدوء : ” من مالك لهالك، لقابض الأرواح، قله بيض الله وجه ما أحد عنده لأحد شي ” .

ثم عدت للشذاب والمشقر رائحة الذي رحل وتركنا نشعر به نبضا فينا، أو قطرة دم تجري بأوردتنا.