إب7 press

سماح عملاق

سمى الإعلامي اليمني الراحل “يحيى علاو” الفنان الشعبي “عبده سامر ” باسم “عبده الضابح” بعد أغانيه الشعبية التي توحي بضجره من واقعه ورفضه له، وكذا تجلي قيم البؤس المُعاش والغضب الكامن في أغانيه التي غناها بلهجته البسيطة الدارجة والبعيدة عن التكلف وبأسلوبٍ ساخرٍ وفكاهي..
وكان يحيى علاو قد استضاف الفنان “عبده سامر” عدة مرات في برنامجه الشهير “فرسان الميدان”، ليُعرف بعدها عبده سامر باسم عبده الضابح.
وبعد عشرين عامًا من ممارسة الغناء، استضافت الإعلامية “مايا العبسي” “عبده الضابح” في برنامجها الرمضاني “طائر السعيدة” لتغير اسم عبده الضابح إلى “عبده السالي” تفاؤلًا وتيمّنًا بالسُعد والفرح.
وهكذا عاش عبده الضابح بين زوجٍ من الأسماء تفرض الظروف إطلاقها عليه ثم تعبّر عما يعتمل داخله من شعورٍ متضارب؛ يتنقّل عبره بين الحزن والفرح تارةً، وبين الاستمتاع والضجر تارةً أخرى.
التحق عبده الضابح بمدرسة الفجر الجديد في مدينة السياني بمحافظة إب -مسقط رأسه- بسن متأخرة، ولم يصمد فيها أكثر من ثلاث سنوات؛ فقد خرج يبحث – مباشرةً – عن لقمة العيش، لكن هذه السنوات الثلاث شكلت ملامح شخصيته كفنانٍ حين شجعه معلموه على الإنشاد والغناء في الصف الدراسي سواءً للتخفيف من رتابة الدروس وللاستمتاع -أيضًا- بصوته الشجي الذي يشبه في مقاماته صوت الفنان الكبير “أيوب طارش عبسي” وهو قدوة “عبده الضابح” ومثله الأعلى في هذا المجال.
كان عبده الضابح شغوفًا بالفن منذ نعومة أظافره، رافضًا لواقعه المر، حالمًا بعالمٍ آخر كل سكانه آلاتٍ وأوتارٍ موسيقيةٍ.
وبعد تركه المدرسة مارس هوايته المفضلة بالتنقل بين حفلات الزفاف، وجلسات المقيل الخاصة في المنطقة وما جاورها للغناء، ورافقه في الإيقاع صديقه الصغير “محمد نور الدين” المعروف بـ”محمد التركي” وكانا ثنائيًا فكاهيًا لطالما أضحكا الحاضرين، وروّحا عن نفوسهم بظرافتهما وخفة حضورهما، وتناغمهما الفريد.
تنقل الصديقان بين القرى لإمتاع الناس وطلب الرزق، ولأن المردود لم يكفِ لتغطية نفقات الثنائي المرح كما -أُطلق عليهما- توقفا عن التنقل.
ووُلد عبده محمد ناجي يحيى أسعد سامر عام 1962 في مديرية السياني بمحافظة إب. ويعد حاليًا من أبرز الفنانين الشعبيين بالمحافظة دون دعمٍ إعلامي أو فرقةٍ موسيقيةٍ خاصة.
من المواقف الطريفة للفنان “عبده الضابح” أنه كان يومًا يغني لأحد محبيه المستقل سيارته يستمع له، وكان “الضابح” ممسكًا عوده واقفًا أمام نافذة السائق المأخوذ باللحن والأغنية، وفجأةً!!.. تحركش به أحدهم ليفقد عبده سيطرته على العود فقطع الأغنية ليسبّه سبًّا دارجًا ثم أكمل الغناء بأريحية؛ فضحك السائق وانتشر ذلك المقطع على وسائل التواصل ليضحك من لم يحضر الحادثة.
يقول عنه الفنان الشعبي “نشوان الحجري” في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”:
“عرفته المتنزهات والحدائق متطفلاً عليها لا زائرًا يبحث عن الترفيه والنزهة والاستراحة؛ ليعرض بضاعة قلبه -صوته الطروب وصبره الدؤوب – شادياً من صبح يومه المضني إلى نهاره البائس المفضي لمسغبة إثر سفرٍ يقارب الساعة والنصف من مديريته إلى إب المدينة التي أحبها وأحبته وعشق التجوال فيها متناسيًا أوجاع عمره المهدور في الخذلان والتغاضي من القاصي والداني… تارةً في جبل ربي وتارة في مشورة وتاراتٍ أُخَر في سيارات العابرين به من وإلى هذه الأماكن..”
خبر وفاة الفقيد عبده الضابح صدم الجموع الغفيرة المحبة له والتي تقوست شفاهها نحو الأعلى بتقوسها عليه وهو يدندن على عوده العتيق المهدى إليه.
الجمهور نفسه الذي أضحكه الضابح بكى أكثر حين أدرك أن تلك اللحظات لن تتكرر بعد ظهيرة الـ 12 من سبتمبر 2020..
في شبابه غامر الضابح بالسفر إلى تعز وهدفه لقاء محبوبه الفنان الكبير “أيوب طارش عبسي” في منزله؛ فرحب به أيوب وأكرمه واستمع له لما لمس فيه من ذائقة فنية، وموهبة فذة ومحبة كبيرة له… وقبل عودة عبده أدراجه لقريته في محافظة إب أهداه الفنان أيوب طارش “عُودًا” ليمارس موهبته في الغناء، وكانت هذه اللحظة بمثابة انطلاقة جديدة للفنان الشعبي المحبوب والمعروف بـ “عبده الضابح”.
عاد الفنان الراحل عبده الضابح إلى مسقط رأسه بعد زيارة “أيوب طارش” منتشيًا ومفتخرًا ومعتزًا بمقابلته لأيوب، وأكثر ثقةٍ بمواصلة مسيرته في عالم الغناء، كونه تشجّع على تقليد “طارش” بصبابته المعهودة؛ الأمر الذي أمتعنا بصوته الشجي وطريقته المضحكة في الغناء.
لم يكن الجو خصبًا لإبداعه في مديرية السياني حين لم يوفر احتياجات المرحوم وأسرته؛ فانتقل إلى “إب” المدينة يتنقل بين نواديها ومتنزهاتها ممتعًا كل من يستمع له راضيًا بالمقسوم قبل العودة إلى مسقط رأسه كي ينهض في اليوم التالي مجددًا عزمه نحو المكان الذي أصبح مصدر سعادته ورزقه “منتزه مشوَرة”.
استقرت جلسات الضابح الفنية في مشورة بين جمهوره ومحبيه. ليتزوج بعدها -متأخرًا- من ابنة عمه منذ مايقارب الخمس سنوات؛ وكان يعول أبناء أخيه السبعة، وعبرت عن ذلك أغنيته الفكاهية والتي تشف عن حزنٍ عميق ومسؤولية عائلية عظيمة تقع على كاهل الفنان.
“ارحموني… واشفقوني… معي سبعة داخل البيت… أوو طيروا بي.. أوو صادموني…أوو فلتوا لي… وين أولّي… ألا يامعين… ألا وارزق وارزق عبده الضبحان”
واستمر الفقيد “عبده الضابح” في مسيرته بمشورة لإفراغ جعبته من محتواها الفني الطريف لإسعاد جمهوره المتغيرة وجوهه كل يوم من زوار مشورة -المنطقة السياحية الخلابة-حاصدًا قوت يومه عائدًا أدراجه لإحضار متطلبات عيش أسرته الصغيرة في منزله المتواضع والكائن جوار الجامع الكبير في مركز المديرية ثم يمارس عادته بمضغ القات ليلًا والتخطيط لليوم القادم.
وأصيب الفقيد بالتعب الشديد والمشابه لأعراض مرض الكوليرا في العاشر من شهر سبتمبر وأسعفه ذووه- في يوم السبت الموافق 12/سبتمبر الحالي-إلى مستشفى النخبة بمدينة القاعدة الأقرب لمركز السياني، وكان قد فارق الحياة في طريقه للمشفى، ولم يقتنع أهله بخبر وفاته، فنقلوه جثةً هامدة فاضت إلى بارئها نحو مستشفى القاعدة العام، فأكد الأطباء خبر وفاته مجددًا لنفقد شخصيةً كانت ولازالت ذكراها مصدر ابتسامةٍ لنا.
يقول فيه الفنان نشوان الحجري وهو من فناني المحافظة المبدعين “رحل تاركًا فينا سؤالاً عصيًا على الإجابة! ورحل شخصًا عصياً على الغياب والنسيان!…
رحل تاركًا فينا ذكريات جميلة.. رحل ولم يغتصب أرضًا ولا عرضًا.. رحل ولم يكن سببًا في شقاء ولا بؤس أحد بل على العكس تمامًا.. ما صادف شخصًا إلا وداعبه -بصوته العذب وإحساسه الصادق – ليغني له أغنية باسمه متنقلاً به من لحن لآخر ليشبع اللحظة غناءً وشدوًا متناهيين.. عرفته شوارع البلاد عابرًا كالخيال حاملاً عودَه وأحزانه الثقال..”.