ارادة تتحدى المستحيل فوق كرسي متحرك

قصة فتى مكافح معاق كسر كل قيود الإعاقة ونظرة المجتمع

إب7 press
جلال الدعري

بنظرات واسعة ووجه متفتح مشرق وتركيبة ملابس عجيبة تختلط فيها الالوان الحارة بأخرى لافتة، فالقميص برتقالي فاتح، والبنطلون برتقالي بدرجة غامقة وضوء الشمس ينسكب عليها فتعطي ذلك الجهة إشراقا وبهاء.
يسير في الشارع ويلوح بيديه العابرين وهم يبادلونه نفس الحركات وكأنه يعرف أهل المدينة جميعا. يحيي هذا ويرمي ابتسامة لذك ورأسه شامخا مرفوعا، وفي ملامح وجهه ثمة طفولة وبراءة تكاد تتقافز للشارع، و على الرغم من تخمة جسده الذي يعود سببها لجلوسه الدائم، الا ان مظهره ملائما فهو يملئ عرشه المتحرك وكانه سلطان زمانه وأمير عصره.
كل صباح يستيقظ ” مراد ” اسم مستعار، يسدل ستار الليل ويجر البزوغ الأول ويسحب خيوط الشمس ويمتطي صهوة كرسيه المتحرك ليخوض به تحديا لإعاقته الحركية وسعيا لطلب الرزق الحلال.
ايام وانا ارقبه عن بعد، وكل يوم يزيد من ذهولي واعجابي، قررت الاقتراب منه وكان كل ما يدور في ذهني أنه فتى يتجول بكرسيه الإعاقة لغرض التنزه او للوصل إلى مكان معين او – وهذا يحدث كثيرا – للتسول مستغلاً إعاقته الحركية، لكن ما اكتشفته كان عظيما للغاية فالفتى المعاق والمرح يذهب للعمل بكل اصرار وتحدي وصعوبة التجول في الشوارع بمفرده حاملاً بضاعته وأسلوبه السحري في جذب الآخرين.
” تشته يا عم بفك بطاطيس، هيا ايش ادي لك “، بتلك الكلمات الممزوجة بابتسامة ساحرة يخاطب الجميع، وكل من مر بجواره حتما سيسمع تلك العبارات أو ما يشابهها، وبهذه العبارات وقليلاً من البضائع والمقرمشات يقضي الساعات وعمره 16 عام، ورغم صغر سنه الا انه يحمل بداخله رجل من يتحلى بالمسؤولية والهمه العالية ومن تلقاء نفسه، وعندما سألته من طلب منك العمل؟ اجاب بانه لم يطلب من أحد انما هي ارادته ورغبته بالعمل عوضاً عن الجلوس بالبيت في فراغ ” اطلب الله، أحسن من الفرغة اشقي والله كريم “
هكذا كان رده، قلت له: اين والدك وهل لديك إخوة؟
قال: ابي يعمل سائق بسيارة أجره
هل يعني أنك تعمل لكي تساعد والدك في المصروف؟ أجاب: ” لا …لا.. هو الذي يعطيني المال لأشتري بضاعتي ويرفدني بالمال دائما، ” حتى أنى في بعض الأحيان أنفقها ويعطيني مره اخرى “
تعجبت من إجابته، فيما هو غير مكترث ويواصل حديثه.. انا أضع كل ما اكسبه من مال عند والدتي.
وأخبرها بان تعطي ابي لكي يصرف منها على المنزل، ولكني اعود بعد وفترة وأراها كما هي لم تنقص فلسا واحدا … قال جملته الأخيرة وعلامات الإشراق تبدو في محياه، وابتسامة خفيفة تنبعث تشي الى ارتياح نفسي وسعادة خفية تسكن روحه الانيقة.
وبينما يستمر حديثنا كان هناك اناس يمرون من امامنا وكل من يمر من امامه يلقي عليه السلام وهو بدوره يرد التحية ويلقي عليه عبارة البيع المعتاد عليها ” هيا ياعم تشته بفك ” ( ياعم تريد بفك) دون توقف او احراج يواصل عمله دون ان يسمح لشي ان يعيق عمله.
عندما خلا الشارع قليلا عاد ونظر لي وكأنه يريد أن يقول لي.. ما الذي تريد معرفته أكثر!!!
سألته عن الدراسة فاكتشفت أنه طالب منتظم وهو على مشارف الخروج من الصف الاول الثانوي الا ان جائحة كورونا علقت العملية التعليمية وحالت دون انتقاله للمرحلة قبل الأخيرة من التعليم العام.
“مراد” … لم يتوقف ولم يلتزم بالحجر والجلوس بالبيت، لم يستطيع ان يجلس دون عمل او تعليم هكذا هو معتاد كحد قوله، بل يلف هنا وهناك ويسعى وراء الرزق، اتخذ الاجراءات الوقائية كارتداء الكمامات والقفازات البلاستيكية وتوكل على الله، حسب قوله، وحاله حال غيره الكثير من الباعة الجائلين في ظل هذه الجائحة، ووسط وضع اقتصادي متردي جراء الحرب والحصار.
هذه واحدة من قصص الإرادة القوية وتحدي المستحيل، قصة فتى مكافح معاق كسر كل قيود الإعاقة ونظرة المجتمع وتفوق علميا وعمليا واجتماعيا ومن يدري ما الذي سيصيره في المستقبل.