حياة من ورق…!
” حتى الولد الذي في نفسي، ما قدرتي تخلفيه لي يا تافهة”
إب7 press
أسرار الدحان
” بثينة “، إحدى عشر ربيعا، أكثر ما كان يميزها ذكائها الفطري، طفلة مميزة، جميلة شقية كثيرة الحركة، ولا تتوقف عن الكلام.
كانت طفلة طموحة ذكية موهوبة لكن الحياة تظهر لها وجهاً آخر ملئ بالألم الذي دمر أشياء كثيرة جداً في روحها الغضة المتطلعة بكل حب للحياة.
مشاكل والديها التي تتفاقم يوم بعد أخر أمام ناظريها مثل لديها حائط نفسي مخيف ومرعب، كانت تهرب مع أخواتها الثلاث الآتي يصغرنها بأعوام قليلة إلى غرفة أخرى، حتى لا يسمعن صراخ والدها المرعب، فلقد كان يتحول إلى مخلوق غريب لا يجرؤ أحداً الاقتراب منه
كانت أمهن تبكي وتصرخ بأعلى صوتها، بينما هو لا يأبه لدموعها، يهددها بالضرب ويمسكها من شعرها فتفر من يديه بصعوبة، وتكررت تلك الصور مرة بعد أخرى.
حتى الولد الذي في نفسي، ما قدرتي تخلفيه..
الكثير من المشاعر والحب والاحترام والطموح والأمل يتحطم في نفوس بناته الأربع، لم تكن تعرف ” بثينة ” كنه هذا الصراع والخلاف الأزلي حتى سمعت يوما والدها يتوه بصوت مرتفع ” حتى الولد الذي في نفسي، ما قدرتي تخلفيه لي يا تافهة”.
شعرت الطفلة الذكية بأنها تتماهى للحد الذي لم تعد ترى فيه، تمنت لو أنها ذكراً، لتحقق لوالدها ما يتمناه لعله يتوقف عن عادته الوحشية في استفزاز والدتها، التي كانت كل ما تستطيع فعله هو الصراخ والبكاء.
كانت تنظر لنفسها وأخواتها بازدراء شديد جداً، لم تعد تمتلك قوة تدافع فيها عن كونها تستطيع عمل ما يفعله الولد الذكر، فهي تدرس وتستطيع أن تعمل وتعين أسرتها كما يعمل، وقد تكون امرأة حكيمة مبدعة ترفع من شأن أسرتها أكثر مما قد يفعله الولد، صحيحٌ أن هناك فوارق خلقية بينهما لكن المساواة وعدم التفضيل أمر نبوي لكن لا هروب من الواقع فليست هي وأخواتها سوى (مكالف) كما يقول أباها…!
ازدادت المشاكل إلى الحد الذي لم تعد تطيقه والدتها، فكرت كثيرا لأيام ولليالٍ طويلة أن تترك ذاك المنزل المشؤم والحياة الزوجية البائسة، لكن كيف ستترك أربع من البنات أكبرهم (احدى عشر عاماً، وأصغرهن لم يتعدى عمرها العام والنصف).
ضربها ضربا مبرحاً بسبب أو بدون
كانت تتخيل واقع بناتها بدونها، كمية الوحدة التي ستشعر هي بها، كمية الوجع الذي ستقاسيه عندما تفارقهن، كيف لها أن تفارق أجزاء روحها، كانت تبكي كل ليلة متسائلة، هل تذهب؟ أم تحتمل وتبقى مهما كانت الآلام التي تقاسيها؟
وفي كل مرة تقرر أن تبقى مكرهة، وتمر الأيام والأيام وزوجها كلما ضاق به الحال أو صارت معه مشاكل بعمله أو مع إخوته يفرغ جام غضبه على زوجته المسكينة وبناته.
تضيق بهن الحال ويعتزلن العالم لأيام، ليستطعن بعدها الخروج للناس من جديد بابتسامة تخفي كمية الوجع في أعماقهن وتزداد وحشية الرجل لتصل إلى ضرب زوجته ضربا مبرحاً بسبب أو بدون.
وتظهر كدمات على وجه الزوجة وجسمها فتختفي عن الناس والجيران حتى يذهب الأثر ولا يعلم بذلك كله إلا الله، وبناتها اللاتي أصبحت حالتهن النفسية سيئة جداً، فقد أصبحن عنيفات تضرب كل واحدة منهن الأخرى ضرباً موحشاً، بالإضافة إلى الفاظهن النابية، الجميع يشتكي منهن والكل يستغرب عنفهن وقسوتهن اللامعقول.
وذات ليلة مظلمة شديدة البرودة لا قمر فيها ولا نجوم أتى والدهن وصرخ في وجه والدتهن كالعادة، لكنها لم تعد تحتمل فصرخت في وجهه وطلبت منه الطلاق فحالتها النفسية أصبحت سيئة للغاية، كونه عاطل ولا يعمل إلا أحياناً ليحتكر كل أمواله في شراء وريقات القات بينما هي تصنع من اللاشيء أشياء فتدبر طعام بناتها وتخيط لهن ملابسهن.
طلقني..
صرخت بكل ما أوتيت من قوة(طلقني)، فرفع يده وانهال عليها بالضرب والشتم والسب وهو يقول (أنت طالق طالق طالق .. يا قليلة الأدب والاحترام، ترفعي صوتك فوق زوجك)، تفلت نفسها من بين يديها بصعوبة بالغة وتفر هاربة إلى منزل أهلها تاركةً وراءها أربعة قلوب محطمة تماماً يملؤها الرعب والحزن والكره لهذه الحياة بكل ما فيها.
ذهبت والدتهن بلا عودة فأصبح البيت بارداً، جدرانه سوداء مظلمة وكل شيء في هذا العالم لا يعني لهن شيء، وبدأت بثينة تحمل مسئولية أخواتها، فكانت تطبخ، وتغسل الملابس، وتهتم بوالدها وكل ليلة تبكي طويلاً، فالحمل ثقيل على من هي بعمرها.
اعتنت بأختها الصغيرة ذات العام والنصف، وأحيانا لم تكن تذق طعم النوم فساءت حالتها وهزل جسدها، بالإضافة إلى كل ذلك، فقد تركت مدرستها ولم تعد تميل لعمل أي شيء.
أصبح كل همها وكل مخاوفها، كيف ترضية والدها، وكيف تحاول أن تمتص غضبه حتى لا يظهر الوحش الذي بداخله.
كن يبكين طويلاً
أصبحت طفلة منكسرة هادئة جداً، لا تحب الكلام ولا الاختلاط بالأخرين، كل ما يشغلها أعمال البيت والاهتمام بأخواتها وتلبية طلبات والدها بكل ما تمتلك من سرعة وقوة، وكل ما صرخ ارتعبت بشدة وتبكي بغزارة وتحتضن أخواتها و هن يصرخن ويبكين، وبعد مغادرته ترتفع اصواتهن (نشتي عند امي ، وين امي ، ماما، ماما)، أما بثينة فقد كانت تبكي أكثر منهن، تتخيل والدتها في كل ركن، حنانها، ابتسامتها، نظراتها المليئة بالحب والخوف، كن يبكين طويلاً حتى يغلبهن النعاس، وفي احلامهن تزورهن والدتهن فيكون ذلك هو لقائهن الوحيد.
والدتهن هي الأخرى في الطرف الآخر من هذه الحياة تبكي ليلاً ونهاراً ولا تنام إلا بالمهدئات، والمسكنات، لا تسمع إلا أصوات بناتها، ولا ترى شيئا في هذه الحياة إلا خيالهن وضحكاتهن وحركاتهن، فتموت ألاف المرات في اليوم الواحد.
بدء الأب بالبحث عن ضحية جديدة لتكون أماً لبناته ومديرة لحياته ومنزله (حد قوله)، فقد أصبحت حالة البنات سيئة، وتدهورت صحتهن ومع مرور الوقت أدخلت بثينة المستشفى إثر مرض الأنيميا الذي أصاب جسدها الصغير وضلت بالمستشفى وحيدة تصارع الألم والمرض ولا تنطق شفتاها إلا بكلمة واحدة…امي ماما ماما.
الطفل الذي يسكن احشائها ذكراً
أحضروا الأم لترى ابنتها التي قد تكون تحتضر، والتقت ببناتها الأخريات، وقد أصبحت حالتهن سيئة للغاية، فبكت كثيراً حتى انهارت، وعند عُمل لتلك الأم فحوصات لمعرفة سبب تعبها وانهيارها، تبين أنها حامل بشهرها الرابع، واكتشفت لاحقاً ان الطفل الذي يسكن احشائها ذكراً، لكنه مشوه، لأنه تعرض لكدمات وضربات موجعة، بالإضافة لكونها استعملت المهدئات في أشهرها الأولى، وحينها لم تعرف هل تضحك أم تبكي!!
عند وصول الخبر للزوج فقد صوابه، وأخذ يبكي، فحياته انهارت وأطفاله ضاعوا، حتى حلمه الذي كان ينتظره طويلا حطمه بيديه، لم يعد يفيده شيء الآن، لقد أصبحت حياته مدمرة متهاوية كالورق تماماً، وما يزال الوضع قائما بهذه الكيفية الاجتماعية المهمشة حتى اليوم، فيما بثينة تقاوم صلف الأيام بالصمت المخيف.