حكايا جدتي

 

(حزاوي) 2
قصص من الأدب الشعبي

إب7 press
أميمة راجح

جلست جدتي أعلى السلالم تنظر لي بعينين عاتبتين بينما أنا كنت مركزة على أسورة من الفضة -تلتف حول معصمها الأيمن-مطعمة بالعقيق اليماني في محاولة مني لتجاهل عتابها الناري، ولأن جدتي امرأة صلبة روضت بين يديها الشريم* والفأس بيسر محال أن أراوغها أو أن أتخطى غضبها بقليل من اللامبالاة فلا مفر منها، فأشارت لي نحو المطبخ وأمرتني بالصمت في حركة صارمة واحدة، أطعتها مرغمة وجلست مقابل التنور انتظر الحكم الذي ستصدره.

جلبت جدتي سكينة صغيرة وإناء زجاجي ووضعته في حجري بهدوء وقالت:

تقول المقذية حمامة*:

منحوني أهل المدينة ثلاثة أيام لتقرير مصيري، وضعوني في جرف منعزل، وزودوني بماء وطعام وسِكينة وإناء، وأخبروني بالحرف الواحد “عينك مقابل حياتك”، وغادروا تاركين حارس شديد يحوم حول الجرف كذئب.

أمسكت السكينة الصغيرة فسرت بجسدي القشعريرة وأنا أتخيل أن أقتلع عيني بها ولحظتها صممت على الهرب بأي طريقة كانت.

قاطعت جدتي فزعة:

أين توجد هذه المدينة؟

، ثم قلت بصوت مخنوق يرتجف:

هل تريدين مني اقتلاع عيني كما حدث مع حمامة؟

مررت جدتي أناملها على شفتاي بابتسامة ذات مغزى وتابعت:

اجتهدت حمامة كثيرا حتى وجدت فكرة للخلاص من مدينة العور* كما تسميها هي، ونجحت بالفرار، ووصلت حتى شوارع المدينة ليصدمها منظر الناس جميعهم، صغيرهم وكبيرهم نساءهم ورجالهم لقد كانوا دون استثناء يملكون عين واحدة فقط.

قالت حمامة:

شيء ما داخلي تحطم يا جدة، لكنني في الوقت نفسه امرأة خبيثة وبسرعة خاطفة لففت مصري* حول إحدى عيني ولطخت وجهي بدم كذب ومررت بينهم ألعق صدمتي وأواري سوءة ذعري في هدوء.

توغلت في مدينتهم، وراقبت أسواقهم وشوارعهم، وتلصصت على أحاديثهم، وخلال ثلاثة أيام وجدتهم بشر مثلنا!

لكنني يا جدة لازلت مستغربة ما الذي يدفعهم لسلب أنفسهم عينا واحدة، بل ومن يدخل مدينتهم أيضا؟

 

قاطعت جددتي مجددا قائلة:

جدتي هل حمامة امرأة صادقة؟

 

تأففت جدتي لتصرفي وسوء ظني في صديقتها، وأمسكت معصمي بقوة لتنبهني ثم تابعت وقالت:

بعدها عادت حمامة للجرف عازمة على مواجهة الرجال الذين حبسوها فيه، ومعرفة سر مدينة العوران، وحينما استرقت السمع فهمت كل شيء تقريبا.

 

سكتت جدتي فجأة، في الوقت الذي ظننتها ستروي لهفتي بشرح كل شيء، والتفتت نحو الباب الخلفي للمطبخ وظلت لبرهة تحدق فيه كأنما ترى من خلاله تلك المدينة المنكوبة، ثم عادت نحوي بوجه محتقن وسألتني دون مواربة:

كم مدينة عوران تعبرينها كل يوم بسذاجتك؟

 

لما أفهم ما ترمي إليه، ولم أسالها فوجهها الغاضب يكفي لأدرك أنه لا مجال لأي شيء غير الصمت.

 

تابعت جدتي الحكاية لكن هذه المرة كان صوتها مختلفا تماما كصوت رجل مقهور غلبه وطنه قائلة:

لقد بدأت الحكاية حين ولدت الملكة صبيا بعين واحدة بينما كان أبناء عمومته جميعهم بعينين، لم ترضى ولم تكن سريرتها نقية؛ لذا عزمت أن تأخذ كل الأولاد في رحلة طويلة لا يرافقها فيها إلا خادمتها الوفية شوعية*، وحين وصلت الملكة لغابة بعيدة ومعزولة أمرت شوعية بسلب كل الأولاد العين الزائدة التي لا يمتلكها ابن الملك، ثم قامت بيديها باقتلاع عينها.

حين عادت للقصر أخبرت زوجها أن لعنة ما حلت عليهم وللبقاء على قيد الحياة لابد أن يضحي كل فرد بعين واحده وهي أول من رضخ.

صدق الجميع ما قالت ليس لأنهم أغبياء فقط بل ولأن الملكة تملك القوة والشر متمكن من أعماقها، وبدلا من الموت تخلصوا من عيونهم، وعيون أطفالهم تباعا، وهكذا توالت السنين والسنين ليصبح ما فعلته الملكة عرف بينهم حتى نسي الجميع كيف تبدو الوجوه بعينين بينما بقي الملك الأعور يتذكر جيدا أولاد عمومته قبل أن يفقدوا أعينهم، ولازالت الغيرة تنهشه والخوف من النقصان يؤرقه فصار حذرا من أن يرى شعبه أي بشري كان بعينين فيتمردوا ويحافظوا على أولادهم دون أن تلمس سكين أجفانهم وهكذا قرر أن يقتل أي داخل للمدينة يرفض التخلي عن إحدى عينيه دون رحمة.

وقفت جدتي وقالت لي بصوت حازم:

حين اكتشفت حمامة الأمر لم تهرب من المدينة لقد خانها خبثها فاتجهت للسوق واعتلت مبنى قديما وصرخت في الناس:

أنا لست عوراء، أبصركم جميعكم بعينين، توقفوا عن اقتلاع أعينكم وتشويه معالم وجوهكم، فقط ليمتلئ غرور ملكهم، أنتم تخسرون رؤية العالم من كل الزوايا، تخسرون أنفسكم حين تقتلعون أعين أولادكم دون سبب.

لم تدرك حمامة أنها أيضا أشعلت في نفوسهم الغيرة، أنهم بشر كملكهم وأن صورتها الجميلة دون عور لن تعجبهم وستذكرهم بقبح ما فعلوا فصرخ من بينهم رجل:

اسلبوها هذا الجمال لا تدعوها أبدا.

في احد المنعطفات وبينما العوران يتدفقون نحو حمامة لاقتلاع إحدى عينيها كانت تقف امرأة عجوز تتساقط الدموع من كلتا عينيها بغزارة وتتمتم لنفسها:

أقترب وقت خروج أولادنا الذين حرصنا أن نحتفظ بأعينهم بعيدا عن أكذوبة الملكة، ظهرت الحقيقة ياشوعية وغدا سترى حمامة الفارة من هنا أطفال آخرون لا عور يلطخهم.

هكذا أنهت جدتي الحكاية بينما قلت أنا بصوت متزن والندم يلفه:

سيعود كل شيء لطبيعته وكل مدينة عور مررت بها سأمحو آثارها من قلبي أولا.

وأضفت بصوت شاعري:

أعدك ياجدتي.

خلعت جدتي أسورتها وألبستني هي بابتسامة صافية، ثم قالت لي بهمس شديد:

كل ما نحدثه في أنفسنا من تغيير لمجاراة الآخرين ونيل رضاهم والخوف منهم فقط هو عور قبيح.

كانت الأسورة ثقيلة للغاية لكن كلمات جدتي الأخيرة كانت كفيلة بنفي كل ثقل دون ثقل فحواها.

___________________________

– الشريم أداه خاصه لجز العشب (الأعلاف)

– المقذية مهنة تتفرع من الشعوذة تمتهنها النساء الماكرات لكسب مال بالخديعة.

– العور، العوران جمع أعور.

-مصري المصر هو قماش مثلث الشكل مخصص للرأس تلبسه النساء لتغطية شعرهن.

-شوعية والمذكر منه شوعي اسم يطلق على المولود كي يخيف الموت فيتركه، وعادة يسمى بها المولود الذي يأتي بعد فقدان الأسرة لأكثر من طفلين.