تتجنب المجتمع وتختفي بين الحيطان، لا تقبل دعوات الزفاف منذ عام تقريبًا.
قبل عامٍ من اليوم تلفّظ شريك حياتها بآخر عبارة توقعت سماعها “أنتِ طالق”.
أثارت قصة هيفاء اهتمامي أثناء ذكرها بشكلٍ عابرٍ في تجمع نسوي بإحدى عزل فرع العدين بمحافظة إب.
لماذا تتجنب هيفاء هذه التجمعات، وهل هنالك ما يعيب في الطلاق أو الفراق عن الشريك؟!.
• اللقاء الأول
بعد عدة أيام تمكنتُ من لقائها، فتاة عشرينية جميلة ولطيفة جدًا، لا يعيبها انطواء، وليست هشة كما صورها كلام النساء.
تلقتني هيفاء بكل ترحابٍ مع علمها بأني مراسلة صحفية أبحث عن قصةٍ إنسانيةٍ للكتابة وهذا ما جعلني أؤمن بفرادتها في مجتمعٍ تعوّد على التعامل مع الصحافة بكل قلقٍ وحذر.
كانت هيفاء صريحة ومثقفة في طرحها ولها مبرراتها للعزلة، وسأنقل قصتها كما وردت على لسانها.
“تزوجته عن حب وكان عيبي الأكبر عند أسرته بأني من اختياره، في صباحيتي بدأت رحلتي مع الكلمات الجارحة التي أسمعها تارةً من أمه وتارةً من أخواته، وبعد صمتي خوفًا من افتعال المشاكل بين زوجي وأسرته تعدى الأمر لتجريحي من قبل بعض الجيران.
(عشقته عشقه، ما تستحي تعمل علاقة قبل الزواج”، “درست جامعة لتقتنص الزوج المناسب..).
• معضلة الحب والزواج التقليدي
تقول هيفاء: “معرفتي بطليقي -فعلًا- كانت أثناء زمالتنا في الجامعة، كان يلاحظ رسميتي، وهدوئي، ويجري المقارنات بيني وبين الزميلات الأكثر انفتاحًا مع الشباب” بعد مراقبة صامتة لتصرفاتي من قبله لعامٍ كامل، أرسل لي دكتورة جامعية تعرض عليّ الزواج منه.
ما كان مني إلا إرشاده لبابي كي يعلم جوابي حسب الأعراف التي أحترمها جدًا. وبالفعل تقدم سامي لخطبتي ونال إعجاب عائلتي وكان الزواج.
لكني لم أتوقع أن أكون متهمة بالحب، بل لم أتخيل أن الحب عيبًا في نظر أسرته. حاولت أن أوضح لأسرة زوجي بأننا لم نتعمق في أية علاقة، ولم نتواصل إلا بعد العقد، وبأنني كنتُ اختياره لأني – ربما – كنتُ الفتاة التي حلم بها وسيأمن على اسمه وماله وحاله وشرفه بين يديها.
تعبتُ كثيرًا وتحملتُ ما لا يُحتمل من الكلام الذي تجاوزوه إلى الضرب.بعد تعاون أخوات زوجي لضربي -فقط- وضعتُ زوجي في الصورة. كما توقعتُ وقف في صفي، وقال لهنّ جملةً ستجعلني ممنونةً له حتى بعد الطلاق وحتى أموت “محد يتزوج بنت أي كلام، وما أحببته فيها أخلاقها وشرفها واستعصائها قبل كل شيء، واللي شاتمسها بأذى لاتلومني ..”.
وبالفعل عشتُ لعدة أشهر في سلامٍ. أصبحتُ جزءًا من العائلة وحملتُ مسؤولياتي بكل تفاني. بدأت حماتي تحبني كوني خدومة، وأهتم بصحتها ونفسيتها كأمي تمامًا” .
• زوجة مغترب
بعد خمسةِ أشهر اغترب زوجها وتركها مع عائلته بعد اطمئنانه عليها بينهم. وبدأت رحلة أخرى من الخلاف غير الحب قبل الزواج.
بدأت الرقابة المفروضة على عدد الأنفاس، مُنعتُ من زيارة أمها التي تبعد عنها ربع كيلو تقريبًا سيرًا على الأقدام، ومن حضور المناسبات الاجتماعية، ومن التزين بالنقش ومن استخدام الميك اب، وكل المطلوب منها-حسب قولها- أن تقف في المطبخ من مطلع الفجر حتى منتصف الليل في خدمة عائلة زوجها كزوجة ابنهم البارّة.
تحكي: “حين اعترضتُ كان التحجج بكلام الناس “زوجك مغترب تشتي الناس يهدروا عليك ويقولوا يعلم الله مو معه؟!!”
والله أني نسيتُ ضوء الشمس بعد منعي من نشر الغسيل في سطح المنزل، كنت أفتقد أمي وأبكي كل الليالي، وحين أمرض يصلني الدواء لغرفتي ولا يصح لي الخروج للمشفى القريب من المنزل.”امسحي الكحل يابنت، لمن تتزيني وزوجك ماهلوش؟!” شعرتُ بي.. كبرتُ خمسة أعوامٍ في خمسة أشهر عشتها خادمة مسلوبة الإرادة والحرية والاختيار”.
• غريقةٌ وقشّة
تكمل هيفاء في معرض حديثها عن محاولاتها للنجاة قائلةً: “حاولت التفاهم مع زوجي -عن بعد- وطلبتُ منه السماح لي بالعيش في منزل أبي حتى يعود، طلبتُ أيضًا أن يسمح لي بمواصلة تعليمي الجامعي وكنت قد تزوجته قبل التخرج بشهرين فقط، ولم أتمكن من خوض الاختبارات الختامية ليذهب عامي الدراسي سدى..”
لم أطالبه بغير ما ذكرتُ لكم، لكنه -مع الأسف- احتكم لأمه وأبيه، ما كان منهم إلا المعارضة، وأمرهم له بفرض شخصيته وألا يكون إمعةً في يد امرأة ناقصة العقل والدين من وجهة نظرهم”.
تشرح هيفاء قصدها بأن “الرجل الحقيقي -عندهم- هو الذي يفرض كلمته على زوجته بحيث لا يذعن لطلباتها مهما كانت بديهية”.
بعدها طالبها زوجها بخدمة أمه المسنّة وأن هذا واجبها الطبيعي كزوجة مطيعة، وأن رضاه مرتبط برضاهم عنها؛ ورضاهم كان صعب المنال بالنسبة لهيفاء.
“صبرتُ لشهرين أيضًا، كنت خلال المدة أراقب من نافذة المطبخ الطالبات والأمهات والنساء – في ذهابٍ وإياب بالشارع – وأتحسر بصمت”.
• الطلاق وأسبابه
افتقدت هيفاء أمها أكثر وأكثر؛ فأرسلت لها رسالةً تدعوها مع أخواتها لمنزل زوجها؛ لبت عائلتها الدعوة في اليوم التالي وعن ذلك اليوم تحكي هيفاء:”
كنت مستعدة لاستقبالهم، رسمت ابتسامة صفراء متصنعة أمام المرآة، أجريتُ بروڤاتٍ تظهر سعادتي واستقراري طوال الليلة في غرفتي كي لا تتألم أمي لحالي.
وحين طرقوا الباب هرعتُ مسرعةً لفتحه، سبقتني عمتي بثوانٍ معدودات. لم تستقبل عائلتي بلياقة بل بتحقيق. حاولتُ تلافي الأمر بمجاملة عمتي، تحوير الغلاظة لمزحة، فشلت!ُ.
لم تسمح لي عمتي باستقبال أمي كي لا تحرضني ضدهم كما قالت أمام الجميع، جعلتهم يقفون على الباب بذلّ، لم أتمكن حتى من احتضانها.
كان ذلك اليوم المشؤوم سبب طلاقي كوني انتفضتُ بغضب وأخرجتُ كل التراكمات من صدري، خيرتُ عمتي حينها بين أن تدخل عائلتي أو أن أخرج أنا.
ما كان من أخواته إلا دفعي من ظهري بملابس البيت قائلات:(برع من بيتنا، سرحة بلا رجعة) ثم إقفال الباب في جوهنا جميعًا”. كان يومًا في قمة الإحراج والبؤس خاصةً في مجتمع محافظ تختبئ المرأة فيه بين كومة قماش غليظ.
تكمل هيفاء: “خبأتني أمي تحت جلبابها من أعين الجيران، وأحضر أخي سيارته للقرب وعدتُ لمنزل أبي بعد عذاب مرير. وصل الخبر لزوجي منهم، لم يسمعني أو يرد على رسائلي بل أرسل لي بورقة طلاقي في اليوم الثالث للحادثة.. بكيتُ وضحكتُ واختلطت مشاعري حينها لكنني تحررتُ من قيدٍ كبيرٍ أثقل كاهلي “.
• حياة جديدة
“عدتُ لإكمال دراستي عقب الطلاق، وحاليًا أنا في تمهيدي ماجستير بإدارة الأعمال، أما الزميلات والنساء بشكل شبه عام لازلن يعاملنني بحذر كأنني موبوءة بمرضٍ معدٍ اسمه الطلاق.
بدأتُ بمشاركة الجارات أفراحهن وأتراحهنّ، فكنّ يحذرن على أزواجهنّ وإخوانهنّ مني كوني تزوجتُ الأول عن حب وسأبحث عن حبٍّ جديد!!.
“ماكانش شطلقيه لو مابيش عيب”. أسمع التناجي من فمٍ لأذنٍ كثيرًا”.
تستطرد بعناد ومكابرة بقولها: “حسنًا.. كنت أنا المذنبة وحرر الله زوجي مني، وأراد الله لعائلته راحة البال في بعدي.. دعوني وشأني لأني سيئة”.
حاليًا هيفاء منهمكة في إثراء معارفها بالاطلاع والقراءة ولا يهمها مجتمعًا عقيمًا يدفن المرأة بالوحل ولا يريد لها حتى أن تتنفس أكسوجينها..
هيفاء رقمٌ واحدٌ من أرقامٍ كثيرةٍ تصل لـ 30% من النساء على مستوى اليمن ممن لم يجدن منبرًا لإيصال آلامهنّ وذلك في مجتمع يقيّم النساء من منظورٍ ضيق، تجد المرأة المثالية فيه هي تلك الزوجة الصابرة والمحتسبة والتي لا تشتكي وجعًا، ولا تطلب حقًا إلا أثناء سجودها صمتًا بينها وبين خالقها.