من تونس الخضراء إلى نبض الوطن الكبير محافظة إب،،
سلسلة مقالات حول زيارة « إب7برس » للجمهورية التونسية ” 4 – 5 “
تونس الخضراء .. حكايا الدفء المفعم بالشجن
نشوان النظاري | رأي
التونسيات منحوتات من جمال وخضرة وشموخ هذا البلد المدهش، حسناوات بلا حدود، تتخطى في مقامهن كل مقامات السحر والجذب وكل ممكنات الفتنة والأنوثة الصارخة.
في تونس العصافير لا تزقزق، لأن صوت الأرض موسيقى أنثى شقراء تضبط ايقاع نغم الحياة، شابة أخرى ينسدل الليل من بين شعرها الحريري الأسود، فتاة قبل العشرين تلقي عليك التحية وتقترب منك في بهو مطعم فسيح، وتبادلك الكلمات بشغف وجنون وطيش وحنان فتيات الثانوية.
المرأة التونسية شريكة الرجل في البناء والتنمية وقيادية من الدرجة الأولى، وصانعة تحولات وتحظى بمستوى تعليمي متقدم، ومتواجدة في كافة مجالات الحياة وتمارس كافة الأعمال المحرمة تقريبا هنا في اليمن، كالعمل في المطاعم والماركات وصالونات الحلاقة، واستقبال الفنادق وغيره من الأعمال العامة.
من بين مليون حسناء منحوتة بالضوء والحب والكرم والطيب ودماثة الأخلاق خرجت السيدة سوسن بن شيخ، ملهمة اليمنيين وفنار القيم وأسطورة التواضع، شخصية اختزلت مناقب الحكمة وسمو النفس وطهر القلب، لهذه الإنسانة العظيمة حضور أنيق وغير متكلف يغمر القلب ويفيض محبة ونبل وعطاء.
هنا تباع السعادة، هذه العبارة مكتوبة أمام إحدى محلات بيع الورد والتحف والهدايا، في حي سوق العطارين بالقرب من مقهى المرابط بالمدينة العتيقة، وهي مقولة حقيقية، إذ لا يكلف الزواج في تونس أكثر من دينارا واحدا، وهو رمزية “الخاتم” ، وما إن يقرر أثنين الزواج حتى يبدأن بترتيب وضعهما ما بعد الزواج، لكن القانون يجرم ويحرم الزواج بأخرى.
تمتلك هذه الدولة مخزون ثقافي وفني كبير، ولعل القارئ هنا يتبادر إلى ذهنه فور سماعه كلمة فن أشهر الأسماء التي ساعدتها الهجرة في الانتشار وصناعة أسماء كبيرة، كصابر الرباعي ولطفي بوشناق ولطيفة والراحلة ذكرى محمد، لكن الساحة الفنية مليئة بكبار المطربين الذين ساهموا في تطوير الغناء والموسيقى التونسية، كالأسطورة المستمرة ” صليحة”، فنان تونس الأصيل الهادي الجويني، فنان الشعب أحمد حمزة، وساحرة القلوب ” علية ” وغيرهم وهم كثر.
على المستوى الأدبي والشعري فمن منا لم يحفظ رائعة الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي ” إذا الشعب يوما أراد الحياة”، وكذلك الأديب والروائي المنصف المزغني، الهادي المرابط، والطابور طويل لا نهاية له.
ثمة تناقضات عجيبة تحدث في يوميات قرطاج، فمحمد موظف الخدمات المثالي في نزل البلفدير، ومحمد أيضا موظف السفريات والسياحة، كلهم نماذج لوجه تونس الأبيض في النهار، فيما أناس آخرين كالأشباح بلا ملامح أو محددات هم من يصنعون مساءات العاصمة التي تنام باكرا.
إنها تونس يا سادة، وسأفشي هنا بسر خطر، فالعاصمة المفعمة بالحياة تغفو قبيل العشاء بصور فجة ومحزنة، فإذا قررت السفر يوما فاشطب من قاموس يومك الفترة المسائية إلا إذا كنت ممن يحبذون الجلوس في البارات والتسكع في كباريهات المدينة، وهنا أنصحك عدم اصطحاب الهاتف أو مبلغ كبير من المال، لأنك في الطريق قد ربما تخسر كل شيء.
أينما يممت وجهك في تونس نهارا، الآن سألتزم هذا المسار، فثمة حياة يملؤها الشغف، مهرجانات للزي الشعبي وأخرى للعرائس، وأيام مفتوحة بالفرح والبهجة، ومسيرات رياضية حاشدة ومؤازرة خشنة، وحذاري من مشجعي نادي الترجي الأكثر عصبية وتشددا مع ناديهم، إنهم يجوبون الشوارع ويزمجرون ملئ الفضاء لإثبات حضور ذلك النادي، ناهيك عن حشود المسارح والمعارض الفنية والمتاحف الوطنية.
في هذا البلد، المجتمع والدولة تخطيا عتبات الجهل المعرفي، وأصبح الانسجام النظامي واضحا وجليا من خلال إلتزام وانضباط الجميع بالقواعد المرورية والعامة، فلا صوت لمنبه السيارات البته، ولا درجات نارية تشوه المنظر العام، ولا ازدحامات واختناقات مرورية عبثية، كما لا يوجد مطبا واحدا، أو حفرة، ولن تجد سائقا متهورا يقف وسط الطريق، أو نادل بمطعم لا يهتم بالزبائن كما يحدث في أغلب مطاعم مدينة إب على سبيل المثال.
يعتمد أغلب السكان المحليين هناك في المواصلات على القطارات الكهربائية، وباصات النقل الجماعي، والسيارات الخاصة، وسيارات التكسي، فيما المشتقات النفطية متوفرة تماما وبأسعار مناسبة ولا توجد أي ازدحامات أمام المحطات النفطية أو بجوار السلع الغذائية، فالجميع منظم ومرتب ويتحلى بقدر وافر من المدنية والتحضر، فقط يتكوم الناس وبمختلف الأعمار أمام عرض مسرحي أو معرض للكتاب أو في دور السينما.
صوت الاذان يشق ظهيرة تونس في جامع الزيتونة التاريخي في المدينة العتيقة، وهو ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع، وقد تأسس في 698 (79 هـ)، بأمر من حسان بن النعمان وأتمه عبيد الله بن الحبحاب في 732، ويقع على مساحة 000 5 متر مربع، ولديه تسعة أبواب، وقاعته الداخلية تتكون من 184 عمود.
في المدينة العتيقة ثمة حضور تاريخي طاغي، ففي حي العطارين القديم تباع الملابس والأدوات التقليدية التونسية، وفي الجوار شارع الموتى، وتأتي دلالة هذا الاسم أن المحلات التجارية القديمة في هذا الشارع يتوارثها الآباء عن الأجداد، وهكذا.
وفي سوق المدينة العتيقة يستقبلك ” شكري” برحابة صدر وبشاشة وجه، ويقوم برش العطور الطبيعية على ملابسك ويديك ببذخ يدل على أصله الكريم، فقليلا من ” شقائق النعمان “، وبعض الشيء من ” ليالي قرطاج”، وخليط من هذا وذاك حتى فاح المكان بعطر أهله، وفي الجوار العم ” سليم ” الذي أخذ ما بحوزتنا من مال ونحن بمنتهى السعادة، إذ يحظى هذا الرجل بحس فكاهي واقناعي عال، وطريقة ماكرة لاستدراج الزبائن، وسلب دنانيرهم بسعادة بالغة.
في الطريق إلى سيدي بوسعيد، هناك المدينة الرومانية، حدائق قرطاج، والبحيرات الساحرة التي تشكل لوحة مذهلة لوجه آخر للمدينة، وفي سيدي بوسعيد، مرفأ العشاق، ومرسى الابتسامات الصافية النقية، تستريح النفس وتدخل في طور الغواية والانبهار، فهناك سحر المكان، وروعة المنظر، وحلاوة الأطعمة الشعبية، وثمة محلات صغيرة على جانبي الطريق تقدم أطعمة آنية شهية، وأخرى تبيع الحقائب الجلدية والنعال المزينة والأحذية والهدايا الرمزية، وكلها مصنوعة بأيادي تونسية مهرة، ناهيك عن حسن تعامل أهل المكان، ومن هناك ترى البحر موالا يموسق المدى ويرسم تقاسيم السحر، ويضفي على المكان هيبة وجمال يفوق الوصف والخيال.
سيدي بوسعيد، لوحة فنية مكتملة الأركان، ألوانها الأبيض الذي يغمر المدينة وينتزع أدق تفاصيلها، والأزرق الذي يزين النوافذ والشرفات والتقاسيم البارزة لواجهات المنازل، ولسوء الحظ أن وقت زيارتنا للمدينة كان ضيقا جدا، ولم نتمكن سوى من المرور العابر على متن السيارة في الشارع الرئيس، حتى وصلنا للجزء العلوي وهناك استقر بنا المقام لوقت محدود، وقفلنا عائدين إلى وسط العاصمة، مسكونين بذكريات مفعمة بالشغف والألق، متخمين بوجبة شهية من السمك اللذيذ.
تتميز تونس بتنوع ثقافي وديني وتجيد فن التعايش والسلام، وهي تحترم حرية إقامة الشعائر الدينية دون استثناء وتمييز، وتكافح العنف والتطرف عبر سن تشريعات تجرم الفتاوى والخطابات الداعية لإقصاء الآخر، واحترام الرموز الدينية ودور العبادة والنأي بها عن التوظيف السياسي، فضلا عن تعديل المناهج التربوية بما يسهم في تهيئة الناشئة لقبول الاختلاف، وبالرغم من أن الدين الإسلامي يعتبر الدين الرسمي في تونس الذي يعتنقه حوالي 98% من المواطنين، ويستحوذ المذهب المالكي على الغالبية العظمى، إلا أنه توجد المسيحية والكنائس وتوجد اليهودية والكنيس، والجميع يسير في إطار مدني حضاري موحد.
وتعتبر الدولة الديمقراطية الكاملة الوحيدة في الوطن العربي في مؤشر الديمقراطية حسب وحدة الاستخبارات الاقتصادية، وهي واحدة من الدول القليلة البلدان في أفريقيا تحتل مرتبة عالية في مؤشر التنمية البشرية، وأعلى دخل للفرد في القارة.
وتونس بحجم ولاية ويسكونسن الأمريكية، وعدد سكانها لا يتجاوز الـ 11 مليون نسمة، إلا أنها تتمتع بتنوع بيئي كبير بسبب امتدادها بين الشمال والجنوب، حيث تسقط الثلوج عليها في الشتاء، وتعد من بين المناطق الأولى في العالم بزراعة الزيتون.
تونس مندمجة بشكل جيد في المجتمع الدولي، وهي عضو في الأمم المتحدة، المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية، جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الأفريقي، حركة عدم الانحياز، المحكمة الجنائية الدولية، مجموعة ال77 والكثير من المنظمات الأخرى.
غدا نلتقي
نزل البلفدير،
تونس العاصمة
مساء الـ 18/ 3 /2022م