” صوريني لكن لا تنزليش بالفيسبوك أبي يشاتمني ويضربني …!
” أنهار ” .. طفولة بين الأحزان وحرمان التعليم
إب7 press
بغداد المرادي
كالعادة عند خروجنا من قاعة الاختبار في جامعة إب لم يكن ما يعكر صفو ذلك الجو في تلك اللحظات سوى صعوبة بعض أسئلة الامتحان النهائي الذي جلسنا نتبادل أطراف الحديث عنه وما أجابت كل واحدة منا، ونحن كذلك وإذ بطفلة تستمع بهدوء لحديثنا وتتأمل ما نقول، وكأني بلسان حالها يقول ” حرمت من تلك اللحظات حتى ولو كانت ابتدائية…!”.
عينان بنيتان، نظرات ثاقبة، جسد نحيل، شعر أشعث اغبر، ملابس رثة، طفولة تائهة بين ضياع أب بالوجود، وفقدان أم بالرحيل الأبدي مذ كانت في بواكير الصغر وسنون عمرها الأولى.
يا الله! كم لهذه العينين من تساؤلات كثيرة صادقة وسط كل ذلك الضجيج إلا أنها استطاعت أن تخفي تلك التساؤلات المعاتبة لحالها وحال كل طفل يشبه حالها وصعوبة الحصول على حياة كريمة.
خفق قلبي لها بشدة وهي تتحدث إلينا معرضة علينا بضاعتها وهي عبارة عن مجموعة من ميداليات الزينة وأحرف وغيرها لنشتري منها حتى تمضي بسلام.
- بداية الحديث
قلت لها: أتسمحين لي بأن اتحدث معكِ وأن التقط لك صورة حتى… لم تدعني أكمل قاطعتني بالقول ” صوريني لكن لا تنزليش بالفيسبوك أبي يشاتمني ويضربني …!” ليش (لماذا)؟ لانه يشتي إلا بيس (نقود) واني ممنوعة اتكلم مع اي واحدة عن أي شي؟ من وين أنتم؟ إحنا من هنا من مدينة إب…! نازحين؟! وين ساكنين …! هنا طالع مشيرة إلى إحدى بوابات الجامعة، مع التفات حذر منها وكأنها تترقب أحدا ما…!
التقطت لها الصورة، نظرت لهاتفي متسائلة كم التقطت لي صوراً…؟! قلت لها ثلاثا اطمئني لن أضرك بشي …!
- نكمل حديثنا
ما هو عمل والدك؟ والدي لا يعمل أبدآ..
أهو عاجز ام به مرض اقعده طريح الفراش!
لا.. لا، لكنه يعتمد علي وعلى أخي في المصاريف.. أعدت السؤال مرة أخرى بيتكم ملك أم ايجار …
تصمت قليلا لتجيبني بالقول: ” مابش معنا بيت ننام بالشارع ” أمك ماذا تعمل لماذا لا تحفز والدك على العمل أو أكيد انها تعمل في مهنة ما …؟!
- (أنهار لم تر ولم تعرف أمها..)
تلك العينان اغرورقت بالدمع ليتني لم أسالها …! ” أمي ماتت وأنا صغيرة ما أعرفها أبدا، قالتها بحشرجات تخالج صوتها جعلتني أتمنى لو كنت أستطيع أن اخفف عنها ذلك الحزن والألم وهي تتحدث عن نعمة عظيمة لم تعرفها ولم تحتضن بذلك الحضن الدافئ.! صمتت ولم يعد بوسعي التحدث أكثر أو إدارة حوار معها، عن كل ما كان يدور في ذهني وأنا أقف أمام مأساة حقيقية في العاشرة من عمرها ولكنها تبدو وكأنها أم لأبيها وأخيها الأصغر منها الذي أتى هو الآخر مسلوب الطفولة والأمومة كما أخته “.
- حلم
” أنهار ” هو اسم مستعار، خوفا عليها من توبيخ والدها المنتظر لهما ولعودتهما بالمال الوفير لشراء القات، حلمها أن تتعلم كما تتعلم من هن بسنها وسن أخيها “أحمد” أيضاً وأحمد كذلك اسم مستعار لذات السبب ..!
ونظرا لارتفاع تكاليف التعليم وأوضاعهم الصعبة والقاسية إلى حد كبير لم يستطع والدها أن يدعها تدرس حتى الصفوف الأولى لتتمكن ولو جزء بسيط من القراءة والكتابة والحساب، حتى تتمكن على أقل تقدير من مساعدتها في حياتها البائسة التي تعيشها وأخيها.
- وجه أنهار لفت انتباهنا
تبادر إلى ذهني سؤال في ختام ذلك الحديث مع ما كان فيه من ألم ووجع وصمت، سألتها ماذا إن عدتما إلى أبيكما دون أن تحصلا على مالا يفي متطلباته، أو لم تحصلا على شيء نهائياً…؟
طأطأت رأسها للأرض بنظرات وبحسرة كادت أن تميتني لتجيب ” يضربني أبي بشدة كل يوم، حرمني من الدراسة ولم ادرس حتى الابتدائي من أجل أن أوفر المال الكافي له …!
لفت نظري وهي تحدثني مجموعة من الكدمات موزعة على وجهها تؤكد لنا صدق حديثها، عاينت وجنتيها إذ بهما حقا ما لا يظن أن أبا يستطيع فعل هذا بابنته.. ” ايش هذا يا أنهار اللي في وجهك.؟! ” هذا من البقص حق ابي يجلس يبقصني “يقرصني”، ويضربني كل يوم انا وأخي إذا ما نطلبش الله سوا”.
اشترينا منها ما سهل علينا شراءه ومضينا بحسرة وألم لا يطاقا وتساؤلات لم نلقى لها أجوبة سوى أننا أصبحنا في وضع مخيف جراء اختراق الطفولة بهذه الطريقة وتحطيم حلمهما.
هكذا يبدو أن أخطاء الكبار يتحملها الأطفال الذين عانوا ويلاتها وتمزقت أحلامهم كما تمزقت كل قيم الإنسانية التي انتهت مع أول قطرة دم أزهقت بسبب سوء استخدام السلطة الأبوية ولملمة ما يمكن أن يكون صالحاً للعيش في وطن انهكته الحروب والصراعات الداخلية.