اعترافات أنثى 4
قوانين قمعية متوارثة
إب7برس Ibb7press
نسرين جبر
هل كان يتوجب علي أن أبتسم في وجه العادات اللعينة؟!؛ تلك العجوز التي أكل الزمان عليها وشرب لكنها تلاحقنا بإصرار وتكتم أنفاسنا بقوة، أنها تلحق الأذى بنا، تنهش بأرواحنا، تعبثُ بنا كدمى، ويجب علينا أن نقف بكل صمت وصبر أمامها دون أن نكسر لها قيداً أو أن نخالف لها شرطاً.
هي تنص على أن تصمت المرأة في حضرة الرجل حتى وإن انتهك حقها، فمن العيب أن تطالب بالحق المسلوب، وان قرارات الرجل حتى وإن كانت ظالمة تنفذ حرفياً، وشروطه تعتبر قوانيناً تعاقب من تخالفها.
أتذكر جيداً تلك الأيام الصعبة التي كان يلاحقني فيها أخي عند ذهابي إلى المدرسة، كنت أشاهد ظله بينما تملأ مخيلتي ضجيج تعليماته وتحذيراته، كان يتوجب علي أن لا أنظر إلى الشمس مهما تطلب الأمر، فلماذا أرفع رأسي واقفة في الطريق!! كما أنه يجب علي أن أسير إلى جوار الحائط، وأن لا يرافقني سوى ظلي فأنا إمراه ( وصمة العار ) التي تلاحق الأسرة.
كنت أتعرض للتعنيف بصوره المختلفة في كل مرة يرتفع فيها صوتي على صوت أخي الذكوري الأجش، كان يتوجب علي أن لا اغني أو أدندن بفرح، فمن العيب أن تفعل ذلك فتاة في مقتبل العمر، مثلما كان يجب علي أن أستمع إلى القوانين المصيرية التي كانت تصدر مهما كانت ظالمة، مهما كانت موجعة.
كان إحدى تلك القوانين المتوارثة في عائلتنا الموقرة، أن لا يجب على الفتاة إكمال تعليمها بعد الصف السادس، فهي أصبحت تجيد القراءة والكتابة، فما الحاجة لمواصلة التعليم المتوسط والثانوي، حتى إنه يشعر الفتاة بالغرور، ويجعلها تتطلع إلى الدراسة الجامعية وذلك التفكير بحد ذاته يعتبر خروجاً عن الأخلاق والقيم، فكل من درست الجامعة واختلطت بالرجال وارتفع صوتها أمامهم هي ( موضع نظرة خاصة ).
كان يتوجب علي أن أقف وحدي أمام هذه الصراعات الطويلة والقوانين الموضوعة والعادات المتوارثة، وحدي بجسدي النحيل وبأحلامي الكبيرة، وامنياتي العملاقة، أمام عادة لها عشرات السنين يطبقها الجميع بحذر وبحب متوارث وبصمت وخضوع، إنها ليست ديناً حتى يتوجب علي أن لا أكفر بها، وليست قانوناً دوليا لا يجب أن أخالفه، على العكس إنها تنافيهما تماماً.
كان أبي يستعد لتنفيذ القانون العائلي بعد أن انهي مرحلة الابتدائية، أخي بدوره كان سعيداً جداً لأني بعدها سأتفرغ لخدمته كما أنه لن يضطر للمشي خلفي ومراقبتي وانتظاري أمام المدرسة ليراقب تصرفاتي، ليته فقط كان يرافقني بكل الحب والاحتواء الأخوي لكنت ممتنة له، لقد كان كل ذلك يهز أعماقي كشجرة في بداية الخريف، تنهب أيادي الرياح كل مظاهر الحياة فيها، فتقف جافةً مصفرةً ينظر إليها المارون بأنها شجرة عملاقة تحدت الزمن ومرت عليها الفصول دون أن تسلبها شيء، والحقيقة أن كل ما تبقى منها هي أغصان جافة تتآكل من تلقاء نفسها.
حين حان وقت استلام شهادتي النهائية وكعادتي السنوية كنت ( الأولى ) على صفي، ففي كل عام كنت أفرح وأسابق الرياح وأنا عائدة إلى منزلي، الأحلام ترافقني والأمنيات تبتسم أمامي، كنت أعلقها على باب دولابي الخشبي وفي كل مرة افتحه تعانقني الأحلام بحرارة وارى نفسي سابحة في الخيال (طبيبة لطيفة ترتدي البالطو الأبيض وتداوي كل من أتى إليها متألماً )، لكنني الآن اتعثر بالخيبة و أهرب من شبح القانون الوضعي، هل سيُنتزع حقي بالحياة، لأحبس وأضاف إلى قائمة ( حسناوات العائلة ) اللاتي يتزين و ينتظرن أن يختارهن الفارس المنتظر، ويجب علي في ذلك الوقت أن أكون قد أتقنت الطبخ بأشكاله، وأن أكون بارعةً جداً في صناعة الخبز بتنور (الحطب أو الغاز) ، وهذا هو المقياس الوحيد الذي تقاس فيه الأنثى البارعة في عائلتي المجيدة.
أنا أبوح الآن بينما النار تضطرم في أعماقي انتقاماً لكل أنثى أحرقت بمحرقة العادات دون أدنى رحمة متمنية، أن يصل صوتي للعالم ( الأنثى لها الحق بالعيش كما وهبها الله كيف لكم أن تنزعوا حقاً ليس ملكاً لكم …) سأكمل قصتي التي بدأت فيها معكم ومحاولة قص اجنحتي ومحاولة حرماني التعليم المتوسط، انتظروني فقط في الأسبوع القادم.
#اعترافات_أنثى 4