نزهة لا تُنسى في الجنّة المنسيّة.. وادي نخلان
إب7 press
سماح عبدالله
كان الوقت مبكرًا جدًا حينما قررت عائلة محمد رشيد التنزه في أطراف وادي نخلان، أسفل مديرية السياني التي تقع جنوب محافظة إب على بعد 23 كيلو متر تقريبًا، حيث يقع الوادي شرق مديرية ذي السفال التي تسكنها أسرة رشيد.
نبه أبو محمد ابنه وأحفاده بأن المنطقة مهجورة ومقفرة وتفتقر لأبسط الخدمات؛ لذلك لا ينبغي عليهم الركون على المال، إنما على الزاد الذي حضّرته العائلة سلفًا في المنزل.
تحمّست العائلة وتسابقت في إعداد أبسط الأغراض التي ستحتاجها في الرحلة، الطعام والشراب والفراش وملابس إضافية وما إلى ذلك.
محمد رشيد، معلم لغة عربية، أبٌ لبنت وأربعة أبناء، من سكان مديرية ذي السفال جنوب غرب محافظة إب، وهي المديرية المجاورة لمديرية السياني التي تحتضن وادي نخلان.
- في السيارة
انطلقت سيارة العائلة في السادسة من صباح الجمعة منتصف أكتوبر الجاري، كانت رهف الطفلة الأصغر للعائلة( 9 سنوات) تتساءل طوال الرحلة، هل يفوق وادي نخلان جمال وادي “العنبي” الذي يقرب منزلهم أم يقل سحرًا عنه؟.
ثم قالت ببسمةٍ تملؤها البهجة:” متى كانت آخر مرة خرجنا نتمشي فيها يا بابا؟ “.
أجابتها والدتها بأن الأمان أهم من التنزه والسفر، وأن الوضع لا يسمح برحلات عائلية خارج حدود المحافظة، والمسافات قد طالت، والمتارس في تزايد مستمر، والنقاط الأمنية لا ترحم، أضف لأزمة وارتفاع أسعار المشتقات النفطية؛ ” تفهمت رهف” لتنشغل في تأمل المناظر الطبيعية الخضراء من نافذة السيارة.
بادر ابن العائلة الأكبر عيسى (23 عاما) لتشغيل آيات قرآنية بصوت القارئ إسلام أصبحي، وتذكير عائلته بأذكار الصباح، ودعاء السفر.
انطلقت ضحكة متهكمة من المقعد الخلفي للسيارة، علي (20 عامًا) :” دعاء السفر أضحكتني بهذي النصيحة، أصلنا مسافرين أديس أبابا، هي السياني شامشي لها رجل!.”.
خفض الوالد من صوت المسجل قليلًا ثم ردّ على ابنه علي أثناء قيادته للسيارة قائلًا: “لا يهم بعد أو قصر المسافة يا ولدي، الأهم جمال المنطقة وسحرها، وربما من فوائد الأحداث المؤسفة التي تمر بها البلاد أنها لفتت انتباهنا لأماكن جميلة جدًا بقربنا، ولا تنس أنك تعيش في أجمل وأروع المحافظات اليمنية من حيث الطبيعة الخلابة، والمناخ المناسب، فقد اعتبرت العاصمة السياحية لليمن، وقد كان السياح يتوافدون إليها من معظم أنحاء العالم في فترة الاستقرار الأمني للبلد”.
- في سائلة نخلان
وصلت العائلة عقب نصف ساعة فقط للوادي المجاور لمنطقتهم، فالأجواء هادئة، وباردة، والعصافير تتسابق في الخروج من أعشاشها مع بداية يومٍ جديد.
بادرت رهف في خلع سترتها الصوفية لكن والدتها منعتها بسبب البرد القارس.
استمرت السيارة في الزحف بسائلة نخلان، تقاوم إطارات عجلاتها أحجار مختلفة الأحجام، لكنها تتقدم بكل عزيمة، لتطوي خلفها مسافة تقرب 1 كيلو متر تبدأ بجسر السياني الذي يربط مدينة القاعدة بمدينة إب.
لاحظت عائلة رشيد تجمّع كثير من الكلاب الضالّة في السائلة قرب جسر السياني، وتزداد أعدادها كلما اقتربت السيارة شمالًا مقابل قرية “برعات”، كانت قرابة سبعة كلاب تنبح وتجري خلف السيارة؛ الأمر الذي أخاف رهف لتغلق النافذة وتنكمش في حضن والدتها.
استمرت السيارة في سرعتها لكنها الآن أسرع للخروج من دائرة الكلاب، لتهدأ وتستعيد أدراجها بمجرد غياب السيارة مقابل قرية قمالة التي تواجه المركز الصحي الوحيد في مركز المديرية.
أغلق عيسى مسجل السيارة ليبدأوا في الحديث، ومع اقتراب السابعة والربع، شعرت العائلة بتكاثر رعاة الأغنام، وخروج مزارعي المنطقة نحو مزارعهم، بدت المشاهد مألوفة بالنسبة لهم، لكن تغير الوجوه شدّ أنظارهم.
استمرت السيارة في طي بقية السائلة لمدة ربع ساعة أخرى. وصلَت الآن لقرية” الجرفات” شمال الوادي، حيث تطل القرية على سدّ الوادي، وبركة السلطان، وشلالات تتعاقب وتزداد غزارة كلما صعدت أكثر.
كانت المنطقة نقية، هواؤها يتخلل مسام الروح، ريحها هادئة تتهادى بفعلها أوراق الشجر لتضيف مشهدًا “هوليوديًا” دون أية إمكانيات أو استعدادات بشرية، فهنا تجد الطبيعة البكر التي لم تطلها أيدي البشر بعد.
استقرت السيارة قرب السدّ الذي يقع في رأس الوادي حسب تعبير السكان المحليين. حيث تنتهي إلى هناك الطريق المناسبة لمرور السيارات، لتبدأ رحلة الأقدام.
وزع الوالد أغراض الرحلة بين أبنائه الأربعة، بينما وقفوا لربع ساعة كي يتأملوا سدّ الوادي.
بدت الحفرة لهم عميقة لكنها ردمت بفعل السيول المتعاقبة عليه، وتراكمت مخلفات المواطنين على الشباك الذي تبدأ منه عبارة السيل نحو السدّ من السائلة.
قال أحمد (14 عاما):”هذا السد يحفظ المياه في فصل الصيف ليستهلكه المواطنون في الزراعة شتاءً حين تندر الأمطار كما علمنا الأستاذ في المدرسة”.
عقبت رهف مباشرةً: ألا يتبخر الماء نحو السماء، لا يعقل إن يظل في محله طوال العام! “.
ردّت الأم، وهي معلمة، بينما كان الأب منشغلًا في تأمين السيارة: “هذا السد يعمل بشكل رئيس على تغذية المياه الجوفية، فإن لم تتبخر المياه سوف تبلعها الأرض، وفي كلتي الحالتين يعود علينا بالنفع، فالبخار يتحول لأمطار، والأرض تروي الآبار وتكفيها”.
ردّ عيسى: “ما أحوجنا لمثل هذه المشاريع، فمن المتناقضات أن يعاني سكان المنطقة من ندرة مياه الشرب بينما تجري فيها السيول طوال 4 أشهر كل عام”.
حضر الوالد وقد التمس أطراف الحديث ليقول: “نحن بحاجة لإدارة حكيمة تدير موارد البلد، وإلا فبلادنا مليئة بالخيرات، هيا لنكمل الرحلة”.
تحرك الجميع راجلين نحو بركة السلطان التي تبعد 10 دقائق فقط عن السد.
- بركة السلطان
شذّت عائلة رشيد عن طريق السائلة لتدخل في ممر ضيق يفصل بين مزارع عدّة للذّرة، حيث سأل هناك في أطراف قرية الجرفات عن مكان بركة السلطان.
دلتهم إحدى المزارعات من أهالي المنطقة؛ ليصلوا نحو البركة في مكان هادئ ومعزول تحفه الأشجار الخضراء من كل جانب.
بدت البركة عميقة، قدرها محمد رشيد بـ 5 أمتار وفقًا لما يتذكره من زيارة له قبل أكثر من عشر سنوات برفقة أقرانه، بادر عيسى بالاستعداد للسباحة، منعته والدته مؤجلة ذلك حتى طريق العودة، فلا يزالوا بعيدين عن أول شلال.
وقفت العائلة لتأخذ صورًا للذكرى، بينما كانت رغد تتقفز فرحًا، مستمتعة بالأجواء خاصة لعدم ازدحام المكان بالزائرين، فقد وصلوا مبكرين عن بقية السكان الذين يتوافدون للمكان بشكل شبه يومي قبل الظهيرة للسباحة.
تعرفت هناك أم عيسى بإحدى المزارعات ليتبادلن أطراف الحديث حول المنطقة وتاريخها وحاضرها، في الحين الذي كان فيه الأبناء، ووالدهم يلعبون بالمياه ويصورون بعضهم بعضا.
بعد راحة للعائلة لمدة نصف ساعة على حواف البركة قررت مواصلة المسير نحو الشلال.
وصلت عائلة رشيد نحو أول شلال عقب ربع ساعة سيرًا على الأقدام، كان الماء كثيرًا، والزوار الآخرين بعدد أصابع اليد، بينما تكاثرت الدراجات النارية التي يحضرها أصحابها لغسلها وربما كوسيلة مواصلات سهلة.
خلعت الأم حذائها لتمسكه بيديها وكذلك فعل البقية ليمشون بين المياه الجارية على أرضية السائلة رغم برودتها، استمتع الجميع بأصوات الشلالات الهادرة والتي يزداد صوتها كلما اقتربوا منها.
لفت نظر رشيد ينبوع من المياه انطلق من جوف صخرةٍ عملاقة، ولاحظ أن الزوار يشربون منه مستمتعين، كان يتمتم مسبحًا بحمد الله، بينما التفتت الأم نحو صخرةٍ أخرى ينبت من جوفها الزرع، واستغربت لكنها ابتسمت.
بدأ الأبناء بالجري تحت المياه والسباحة ثم الزحلقة في الصخور الملساء نحو برك صغيرة من المياه تتواجد أسفل الصخور.
رفعت الأم هاتفها لتلفت انتباههم نحو الكاميرا بأعلى صوتها، فقد كان هدير الشلال عاليًا للدرجة التي لا يُسمع بها شيئًا غيره، التقطت الأم بضعة لقطات لتنشغل مع الأب في تجهيز مكان للجلوس، وتقديم الطعام، ثم أتت رهف مع إخوانها مبلَّلِين يبحثون عن إفطارهم وشايًا يدفئ عظامهم.
أكملت العائلة إفطارها ليرفعوا مخلفاتهم في كيس من البلاستيك وضعوه في جعبتهم كيلا يشوهوا جمال هذه البيئة الخلابة، ثم تسلقوا طريقًا ضيقة بين الصخور ليشاهدوا شلالًا آخر يبعد مسافة ربع ساعة أخرى، لتستمر سلسلة لا تحصى من الشلالات المتعاقبة حتى جبل التعكر المطل على الوادي.
- احترام وإيثار متبادل
بدت الشمس كأمنية طال انتظارها بين برودة المياه ومع اقتراب التاسعة صباحًا ظهر وفد آخر من المواطنين، ثم ظهرت مجموعة من النساء.
بدا الأمر منظمًا بطبيعة الحال، فالنساء يذهبن نحو الشلالات الأعلى، بينما يكتفي الرجال بشلالٍ واحد للسباحة، وبالنسبة للرجال الذين يأتون برفقة عائلتهم غرار محمد رشيد فقد كانوا يقفون عاليًا لمراقبة المارة بينما تنشغل العائلة بالسباحة واللعب، وحال اقترب رجل غريب ينبه العائل عائلته لتلزم الحشمة حتى تغيب المارة عنها.
ورغم تكاثر المواطنين والمواطنات إلا أن الملاحظ التزام معظمهم بغض البصر، وتجنب أية أذى قد يصيب الآخرين دون قصد.
وصلت العائلة نحو الشلال الثاني وكانت عائلة أخرى قد سبقت إليه، فاعتذر محمد رشيد من بعيد من عائلها ليعود أدراجه لكن العائل الآخر استدعاه وأخبره بأنهم اكتفوا وسيذهبون وله أن يُحضر عائلته.
شكر محمد رشيد ذلك الرجل، وبدأت رهف بالجري لتتزحلق في مادة هلامية خضراء ثم تنهض محرجة.
هذا الشلال كان أعمق من سابقة، وأكثر غزارة.. لعبت فيه العائلة لعشر دقائق فقط كي تفسح المجال لعائلة أخرى.
اقترح أحمد الصعود نحو الشلال الثالث بيد أن العائلة كانت قد اكتفت وعادت أدراجها نحو السيارة التي كانت تبعد مسافة ساعة تقريبًا.
تمنت العائلة لو تقضي نهارها بأكمله في هذا المكان المحاط بالصخور وكسر رهبتها، لكنهم يعلمون أن السيول الجارفة تأتي فجأةً في النهار حتى إن لم يسقط المطر على الوادي، فربما يكون المطر في أعلى جبل التعكر الذي يمد الوادي بالسيول، والشلالات التي لا تنضب طوال فصل الصيف.
- أما قبل
قبل أحداث الصراع الدائر في البلاد كان محمد رشيد يتنزه مع عائلته مرةً كل أسبوعٍ أو أسبوعين على الأكثر، ويعتبرها مكافأة أبنائه الخمسة عقب تفوقهم في المدرسة.
تقول أم عيسى محمد رشيد:” كانت آخر رحلاتنا العائلية عام 2010 وحينها لم تكن رهف قد ولدت بعد، وأحمد كان عمره ثلاث سنوات، بينما يتذكرها جيدًا عيسى وعلي فقد كان عيسى بعمر 12 عاما، وعلي 9 سنوات بنفس عمر رهف اليوم، ومن يومها لم ننفذ أية نزهات عائلية”.
ويوضح زوجها محمد رشيد: “كنا نذهب إلى تعز كل فترة وجيزة للتنزه، جبل صبر والتربة وقلعة القاهرة، وإن تيسّرت الأحوال؛ نسافر كل عدة أشهرٍ للتخييم في إحدى سواحل عدن، ونقضي في ذلك أسبوعًا على الأقل”.
يستدرك محمد:” لكنني منذ بدء فترة الأزمة، وتصاعد وتيرة الأحداث أوقفتُ كل مخططاتي للترفيه عن عائلتي، وانصرفتُ نحو تدبّر أمورنا المعيشية”.