إب .. مدينة على حافة الموت

إب7برس Ibb7press
رأي| محمد عبده عيّاش

في محافظة إب، لا تهطل الأمطار فقط، بل تنهال المصائب تباعاً، كأن المدينة كُتب عليها أن تعيش في نشرة أخبار سوداء لا تنتهي.

بدأت بالحريق، مركز الصامت اشتعل، لا بفعل نار، بل بإهمال مشتعِل منذ سنين. بدأ شعلة وأنتهى بكارثة، والتصريحات كانت كالماء على رماد، لا تطفئ وجعاً ولا توقظ ضميراً.

ثم وقود الحياة، البترول، صار هو الآخر فصلاً من فصول الغشّ والكارثة. البنزين مغشوش، يخرب المحركات، يشعل الحرائق، يقتل من يقود، والناس بين خيارين: السير على أقدامهم، أو انتظار الانفجار.

ثم الموت على أرصفة الطرق، حيث يُترك الجسد يصارع آخر أنفاسه منتظراً إسعافاً لا يأتي، لأن الحياة هنا تُمنَح بالتقسيط، إن توفرت سيارة، وإن لم تُغلق الطريق بالحُفر أو السيل.

ثم الكهرباء، المأساة التي لا تنتهي. تنقطع لتعود بمصيبة، تقتل طفلاً، تُشعل بيتاً، تحرق متجرا، تفصل آلةَ حياةٍ عن مريضٍ ينتظر، لم تكتف بذلك، بل تصل لتقتل العاملين عليها.

تتنوع الكوارث والفواجع فيها، وآخر تلك الفواجع، الطفل جامع القناني البلاستيكية الفارغة، مات بالكهرباء لا لأنه اقترب منها، بل لأن الخطر هنا لا يحتاج اقتراباً، يكفي أن تلمس عمودها، يكفي أن تكون حيًّا.

وجاءت الأمطار، وخرجت المجاري عن صمتها، سالت في الشوارع كما يسيل التعب في أرواح الناس. الطرقات غارقة، السيول تسحب السيارات، الباصات، الدراجات النارية، تحمل معها أحلاماً ومناشدات، لا فرق بين طفل وعجوز، بين عابر سبيل وبائع فل، كل ذلك يحصل ومع كل كارثة تبكي المدينة بصمت، فتضيع إب بين السيل والخذلان.

ولأن المصيبة لا تأتي فرادى، يعيش أهل إب فوق هذا كله هاجساً قديماً جديداً يتمثل بالخوف من الطيران. ذاك الصوت المدوّي في السماء، الذي يعيد الذاكرة إلى رماد البيوت وصرخات الأطفال تحت الركام.

وكأن المدينة تحوّلت إلى فخّ مفتوح، من لم يمت بالسيل، مات بالصدمة، ومن نجا من الكهرباء، داهمه غشّ الوقود، ومن نجا من كل هذا، اصطدم بسيارة تهيم في شوارع المحافظة بلا نظام، بلا رادع.

الموت هنا لا يختار وسيلة واحدة، فإن أفلتّ من الحريق، ومن السيل، ومن الكهرباء، ومن غشّ الوقود، فها هو القصـ..ـف إحتمال دائم، ينام الناس واعينهم إلى السماء، يخافون أن يستيقظوا على صدى إنفجار أو خبر عاجل. الخوف من الموت في إب لا يترك مجالاً للطمأنينة، فحتى السماء لم تعُد سقفاً آمناً.

ويخرج المسؤول بعد كل هذا، يلوّح بيديه، يأمر، يلتقط صورة، يقول كلمته: “سنتابع، سنتحرك”، وما أشبهه بمن يأتي “بعد خراب مالطا”، بعد أن نموت على قارعة الطريق يتحرك الجميع، بعد أن يموت الناس، وتنتهي السيارات، وتتساقط الأسوار، وتحل الأحزان، يخرج ليشارك الحزن، دون وضع الحلول.

بعد أن يُحترق المركز، ينُسى ذلك الحدث. فلا تُكتب الخطط الوقائية ولا التدابير اللازمة، ولا نجد أثر للتحقيقات في ذلك. وبعد أن تنتهي الحياة، يبدأ الحديث عن السلامة، والحياة، ومن لم يمُتْ “بالسَّيل، ماتَ بصَدمةٍ”، وموتُ الفتى “في إب أبكَى وأقهَرُ”.

ليس بيني وبين أي مسؤول شيء، ولا أحمل في قلبي إلا الحزن على مدينتي. لكن الواجب يفرض أن أكتب، أن أتكلم، أن أصرخ بالكلمة قبل أن تصرخ الأمهات على ضحايا جدد.

الأمطار لم تكن مفاجئة، فالرسائل وصلت إلى كل هاتف تقول: “الأرصاد يتوقع أمطارًا غزيرة وتوصي بأخذ الحيطة والحذر.”، ألم يكن الأَولى أن تتحرك الجهات المعنية قبلها؟ أو على الأقل بعدها مباشرة؟ ألم يكن من الممكن الاستعداد بما هو أكثر من البيانات الجاهزة والوعود المؤجلة؟ ألم يكن من الممكن توجيه بوصلتهم لإصلاح وتنظيف مجاري السيول؟! ألم يكن من الممكن تجهيز فرق طوارئ، ودفاع مدني.
ألم….؟!
لكن كل تلك الأسئلة تزيد الألم في أنفسنا.

وبعد تلك الأسئلة، يأتي السؤال الذي يحيرني دائما: كل هؤلاء المسؤولين في المحافظة ما عملهم، ومع أي محافظة يعملون؟ لأن إب وبكل تأكيد لا يعملون بها ولا لها.

تعبنا من أن نكون مجرد مشاهدين لكوارث تتكرر كل عام. تعبنا من الصمت كل مرة، من الانتظار على قارعة الفقد. الآن، ليس وقت العتب ولا التبرير، بل وقت النقد البناء، ووقت التحرك الجاد، فواجبي كابن لهذه المدينة، يملي عليَّ أن أكتب، أن أُذكّر، أن أطالب، لأن إب تستحق حياة لا تُؤجل، ولا تُختصر في بيان.