اعترافات أنثى 2
توقد الإناث لتنير طريق الذكور
إب7برس Ibb7press
نسرين جبر
كوني أنثى فإن هذا لا يعني بأنني لا شيء، أنا وجدت لأكون شيئا مؤثرا في المجتمع، لأبدع، لأقرأ، لأتعلم لأوجد حياة لمن منعوا من التنفس أيضاً بحجج واهية.
فلطالما حلمت بتعليم راق ومميز، ومصروف أستطيع من خلاله تغطية تكاليف دراستي وكتبي، وشراء جميع احتياجاتي، كل ذلك حرمت منه كوني (مَرَه ) لا حق لي في التعليم، وإن تعلمت فنهايتي هي ( المطبخ ، وتربية الأطفال )، كان ذلك الحق يوهب عبثاً للذكر الوحيد في عائلتنا الذي لا يهتم نهائياً بالتعليم.
في كل مرة كان أبي يعطي اخي المستهتر نقوداً تحت مبررات دروس التقوية، والتسجيل بدورات لتنمية الذات أو للحصول على ملخصات للكتب، كنتُ أنا أراقب ذلك بحزن عميق، يجتهد والدي بجمع الريالات، ويعطيها له بسعادة يكاد وجهه أن يتشقق لها فرحاً، فإبنه الوحيد سيصبح شيئاً عظيماً، ويحمل اسمه عالياً ليتقلد مناصب عليا ويكون فخراً للعائلة، وباستهتار كبير يصرف أخي ذلك المصروف الشهري على مجالس القات وطلعات الأصدقاء والشلل التي لا تنتهي، وأبقى أنا واقفة أمام حيرتي وحاجتي لأبي.
ليته يمد يده لي ببعض الكرم، كنت في كل مرة أتردد في أن أطلب منه شيئا يتعلق بدراستي، ففي كل مرة كان يردد في وجهي نفس العبارات الشائكة ” اختصري على نفسك التعب ما فيش داعي تدرسي، اليوم او بكره، بيتقدم لك عريس واتزوجتي ، ايش اتعملي بشهادتك تعلقيها قدامك بالمطبخ، هيا سيري دوري لك مهره تنفعك، اتعلمي لك طبخه وإلا اعصدي لأمك تدعي لك )…
في كل مرة كنت أنهزم وأشعر فيها بالذل، كرهت كوني ( امرأة )، كل الحقوق توهب لفئة واحدة دون الأخرى، كنت أحاول أن أحدث أبي بشجاعة الأنثى المكسورة” يابه كان زمان المرأة ما تدرس، الآن المرأة تدرس وتتوظف، مثلها مثل الرجال، وعاد الفرص متوفرة للمرأة أكثر بالمدارس والجامعات والمكاتب”، فيضحك بسخرية “هيا ناهي، سمحنا لك تدرسي قلنا تستفيدي لك كلمتين تربي بها عيالك وتنفعي زوجك، قمتي تحلمي بالوظيفة، لا وتشتغلي مع الرجال وهدره وكلام فاضي هيا ادرسي سكته لما يجي ابن الحلال يسترك ويسكهنا الغارة يوميا”.
كنت أشعر بالحنق كثيرا، تخنقني يد العادات الملعونة والموروث المقزز، سأكون طبيبة تأتي إلي النساء دون خوف، أو مدرسة متميزة أكسر حاجز الخوف لدى طالباتي ليكن شيئاً عظيماً، لن أستسلم بسهولة، لأن وظيفتي الوحيدة تلبية رغبات الزوج، وتربية الأطفال، وكنس فناء المنزل، وتجهيز سفر الطعام لمن يأتي ويذهب دون أن أعبر حتى عن حاجتي للراحة.
أستطيع أن أدرس بمصروفي المتواضع، ودفاتر أخي التي اخذتها متخفية، لأنها جديدة وغير مكتوب عليها سوى الاسم الفخري لهذه العائلة التي توقد الإناث لتنير طريق الذكور دون أدنى رحمة.
ما زلت أتذكر جيداً أولى سنواتي في المدرسة حين حصلت على المركز الأول، فجئت أشد الخطى وأسابق الرياح من شدة فرحي، فقابلت أبي حينها عند الباب فقلت مستبشرة( يابه طلعت الأولى، ابه افرح بنتك جاءت الأولى )، بينما يتطلع بعينيه الحائرة والباحثة للبعيد ودون أن يظهر على ملامحه أدنى ملامح الفرح قائلا ( ها ما شاء الله عليك شاطرة ، شاطرة … وأخوك كم جاء، نجح أو كيف ، احضري لي نتيجة اخوك أولا )، إرتخت يداي التي كانت تحوط أبي بكل الحب، وانكسرت للمرة الأولى، كان ذلك الجرح وتلك الندبة هي الأعمق والأكثر ألماً وقلت بصوت منكسر مهزوم وبقلب طفلة وئدت فرحتها ( أيوه أيوه يابه نجح ، أطمن نجح يابه ).
كانت فرحة أبي لا توصف عند سماعه الخبر، فأزاحني من أمامه باحثاً عن أخي ليهنئه بنجاحه الذي كان أقل بكثير من نجاحي، لكنه كتب في صفحاته الإجتماعية، وصار يحدث الأهل والجيران وكل من يعرف أن ولده نجح وأنه كان يسهر طويلا، وأنه يدرس بجد وبكل فخر يقول ( ولدي هذا ولي العهد للأسرة، ولدي العبقري أنا حاسس أنه ايكون حاجه عظيمة).
كان يقول كل هذا وعيناه تلمعان بشدة، كان يدخل ويخرج وهو يغني باسمه، ويردد عبارات الفخر به وبنجاحه، لم يهتم أحد حينها لنجاحي أو لتميزي، كنت نكره حتى وأن أثبت العكس، كانت أعماقي تبكي بحسرة، وأنا أقف أمام الجميع صامدة وصامتة، كان علينا أن نقف طوال ذاك اليوم كالجواري لنلبي رغبات مدلل العائلة والناجح المتميز الوحيد فيها، وبهذه المناسبة كان يجب علينا أيضاً أن نتحمل تصرفاته الحمقاء، وجنونه الغبي، وطلباته المتكررة، وصراخه المتواصل، كيف لا .. فهو ( رجال )، أما نحن ( فشوية بنات ، مكالف ) لا قيمة لنا ولا ثمن.
ما زالت التهم تكال والألفاظ النابية تردد والعبارات الحمقاء تقال إلى اللحظة، فكونك امرأة يعني أن نجاحك أقل بكثير من لو كنت رجلاً، وكونك امرأة فهذا يعني أن نجاحك هو مطبخك وألوان الطبخ الذي تعدينه، وكم ستحصلين بعدها على درجات تقديرية بعد كل طبخة تعدينها، وهذا فقط هو نجاحك الوحيد.. !
#اعترافات_أنثى 2