” عاصم عبدالجبار ” قصة نجاح لشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة
إب7برس Ibb7press
سماح عملاق
وجد الدنيا صامتة، وعرف نفسه بلا صوتٍ مفهومٍ بمجرد قدومه إلى الدنيا، الولد البكر لوالديه القريبين نسبًا، رغم فقدانه لحاستي السمع والنطق إلا أنه شقّ طريقه في الحياة بكل جدارة واقتدار.
ترعرع عاصم عبد الجبار عملاق (30 عامًا من مديرية السياني في محافظة إب) في قريته الكائنة بعزلة نخلان جنوب محافظة إب، وانضم للتعليم الأساسي في مدرسة الفجر الجديد بالسياني كمدرسة مختلطة غير متخصصة بحالة عاصم، لكن الطفل الصغير وبمساعدة أسرته الواعية كان قوي الشخصية، سريع البديهة، لماحًا للمعلومة، يتميز بخطه الجميل الذي جعله محطّ أنظار معلميه ومعلماته في المدرسة.
- من هنا كانت البداية
أصيب عاصم بالصمم والبكم، وتشوّهٍ أحدث عدم انتظام في شكل جمجمته خُلقيًا منذ الولادة، مع ذلك حاول والديه مرارًا البحث عن سبيل لعلاج طفلهم الوليد بمدينة صنعاء، وكانت عملية البحث مكلفة جدا، حيث اضطر والداه للسكن في منزل أحد الأصدقاء شهرين كاملين، وحين أفاد الأطباء بأن إعاقة عاصم لها علاج تحت إشراف طبي متميز خارج الوطن في “أميركا”، بدأ والده بإجراءات طلب منحة علاجية لولده، وحصل حينذاك على فاعل خير على علاقة بمنظمة إنسانية أبدى استعداده لتغطية نفقة العلاج والسفر، وحسب حديث والد عاصم تم إرسال الصور الدماغية الملونة عبر جهاز المحور الطبقي المستخرج من المستشفى العسكري بصنعاء -آنذاك -لفاعل الخير، لكن هذه المنحة ذهبت أدراج الرياح بعد أن أخفقت إجراءات المعاملة على السفر، ولم يملك عاصم بعدها سوى الاستسلام لقدره، والتصالح مع إعاقته عمرًا بأكمله.
تقول أم عاصم لـ(إب7برس):” إنّ التربية مهمّة صعبة لأم جديدة، لكنها أصعب بكثير حين يرزقها الله بطفل معاق، حيث تحتاج لقدر كبير من الصبر والحكمة والتأني والذكاء في التعامل، وهذه الدروس هي ما علمتني إياه أمومتي لعاصم”.
يوضح أبو عاصم حالة ولده بقوله: “رغم عيشنا في منطقة ريفية إلا أنني حاولت تعليم عاصم لغة الإشارة بما تيسر لي وللأهل فهمه ونقله، وقد ألحقتُ عاصم بمدرسة الفجر الجديد تحت مراقبتي المستمرة لتعامله مع زملائه وأقرانه ومدرسيه، وبتنسيقي المستمر مع مدرّسيه الأكفاء والواعيين عملنا جميعًا على احتواء حالة عاصم وتشجيعه المستمر ليغدو عضوا فاعلا في المجتمع”.
- المعلمة الأولى
يتذكّر عاصم والدته الروحية كما يصفها لنا (بلغة الإشارة)، الأستاذة لطيف الذمراني، المعلمة الأولى التي استقبلَت عاصم في مدرسة الفجر الجديد، حيث يقول عنها عاصم ويترجم أبوه قوله:” من حسن حظي أن أنعم الله عليّ بالأستاذة لطيفة، كانت اسمًا على مسمى، شجّعتني وأحبّتني كأنني ابنها، ابتسامتُها النقية لم تفارق ذهني بعد مرور أكثر من عشرين عاما، تعاملَت معي كطفل يشبه الأطفال، ولم تُشعرني يومًا بإعاقتي واختلافي، لازلتُ أتذكر كيف كانت تعاقب كل من يتنمر عليّ، وقد كانت تناولني العصا وتأمرني بضرب كل طفل يجرحني في باطن يده، فأضربه بلطف كبير ثم تأمر الطلبة بأن يصفقوا لي إذا نهضت وكتبت الإجابة على السبورة، ومن هناك بدأت ثقتي بنفسي ونما شعوري بالزهو الكبير”.
حسب حديث زميل لعاصم لمراسلتنا فمعلمته كانت تناقش الطلبة شفهيًا باقتضاب كي لا يشعر بالنقص، وتكتب كل الأسئلة على السبورة فتأمر معظم الطلبة بكتابة إجاباتهم على السبورة، فكان عاصم معظم الوقت مع الركب.
تقول الأستاذة لطيفة الذمراني:” الفضل لله سبحانه وتعالى بأن أعطى عاصم الذكاء وسرعة الفهم بالإشارة، فرغم مرور سنين طويلة، حيث أن عاصم قد يكون اليوم رجلًا، لكني أقول لكم بأنه في مخيلتي لازال عاصم الطفل الحبوب الذي كانت تظهر الفرحة عليه كلما رآني، فيركض ليحتضنني وهو في السادسة من عمره، ويشير للبقية بيده على امرأة منقبة، كأنه يقول لهم الأستاذة حضرت”.
وتضيف الذمراني أنها كانت عندما تدرس دفعة عاصم، في الصف الأول الابتدائي، تغلق باب الفصل، وتكشف نقابها، كي يرى ويلاحظ عاصم حركة شفتيها التي كانت تحرص على تحريكها ببطء ووضوح مع إشاراتها المستمرة بيديها، وذلك كي يفهم عاصم ما تشرح.
وتشير إلى خط عاصم المتميز منذ نعومة أظافره، فقد كان يقلد خطها كثيرا، وكان خطه متميز بشهادة جميع معلميه بعد ذلك.
وتحكي الذمراني -متندرة – موقفًا لعاصم بقولها:” عندما غبت في أحد الأيام، لم يقبل عاصم بمعلمة أخرى دخلت لتغطية حصصي، فخرج من الفصل ممتعضًا ورافضًا لوجود معلمة غيري معه، وحينما رآني في اليوم التالي فرح كثيرًا، واحتضنني لأدخل معه الفصل”.
- تخطي العقبات
كان عمر عاصم 14 عامًا، في مستهل الصف الثامن، حينما غزا مرض “السل” صدره، فأقعده بقية العام في المنزل، بعد أن هجر المدرسة خشية من عدوى زملائه.
مر ذلك العام ببطء شديد، وكان ثقيلًا على صدر عاصم وعلى قلوب أسرته، وبين كل كحّة وكحّة كان هنالك أحلامًا تذوب، ومفاصلًا تتدهور، وعظامًا تتعب رويدًا رويدا، فوجد عاصم نفسه محاصرًا بثلاثية مرعبة، الصّمم والبكم عن شماله، وتشوه جمجمته عن شماله، والسلّ الذي يتقفّز من جهة لأخرى حوله.
مر عام كامل تداوى فيه عاصم من مرض السل في مستشفى “الدرن” بمحافظة تعز آنذاك، ليستأنف الرحلة من جديد، فبدأ والده بالبحث عن مدرسة تهتم بذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة إب، لكنه لم يجد، مواطنًا ما دلّه على مدرسة الصديق في منطقة “عصيفرة” بمدينة تعز، فانتقل الوالد إلى تعز مباشرة ليطرق بابًا متخصّصًا لتعليم طفله الذي فاق لتوّه من مرضه.
بعد خمس سنوات من الحضور والسفر اليومي من إب إلى تعز، حاز عاصم في الصف الثالث الثانوي على الترتيب الثاني في مدرسة الصديق لذوي الاحتياجات الخاصة، أهلته نتيجته للحصول على منحة دراسية من “معهد السعيد للعلوم الإدارية” الكائن جوار المنطقة الصناعية بمدينة الحوبان في تعز، وبعد ثلاث سنوات فقط حصل عاصم على درجة الامتياز بتقدير 95% مع مرتبة الشرف في شهادته الأكاديمية، وأصبح خريج دبلوم عالي في برمجة الحاسوب.
خلال ثمان سنوات كان عاصم ينهض قبل بزوغ الضوء، ويخترق الضباب والبرد القارس ليسافر إلى تعز مسافة ساعة ونصف تقريبًا لطلب العلم، فأثّر هذا البرد على عظامه التي لم تحتمله، ليصاب بعد تخرجه بالتهابات حادة في المفاصل، وهو حاليا يخضع للمتابعة الطبية بعد ثلاث سنوات من الألم بصمت، لأزمة مالية عانت منها عائلته بسبب أحداث الصراع وانقطاع الرواتب.
- دعم منقوص، وتطلعات للكمال
يشير عاصم إلى برامج المنظمات بإبهامه التي تتجه للأسفل، حيث وأنه لم يسبق أن استفاد من أي برنامج إغاثي أو إنساني، كما أنه يضع يديه على ذقنته بما يعني عتابه للمسجلين والعاملين الذين مروا على منطقته وتجاهلوا احتياجه للدعم المادي والمعنوي، حيث وأنه يلحظ توزيع الدعم المبني على الوساطات والمحسوبيات لأناس لا يستحقونه مثله حسب حديثه لمراسلتنا، ويوضح بأنه إنسان عزيز النفس رغم حالته الصحية والإنسانية ولم يفكر يومًا بالمشاركة في زحام الطلبات متوسّمًا في القائمين خيرا.
ويوجه عاصم تحيته لجمعية رعاية وتأهيل الصم والبكم في مدينة إب، والتي غدا عضوًا فيها منذ عام ونصف فقط، راجيًا من إدارة الجمعية أن تنظر لحالته وأقرانه بعين المسؤولية أكثر، وكخريج جامعي يأمل أن يحصل على حقه من الوظيفة العامة حسب ما ينص عليه القانون.
وتوضح أم عاصم بأن دعم عاصم كان ذاتيا من عائلته طوال مسيرته الدراسية، وعلاجه، ولم يسبق حصوله على أي دعم مادي فيما عدا رسوم تسجيله بأكاديمية السعيد والتي تكفل بها المعهد، لكنها مع ذلك تثمن وتقدر الدعم المعنوي لمعلميه ودكاترته، وتأمل من بعض أفراد المجتمع أن يترفعوا عن بعض المكايدات التي تضر ولدها وتقصيه عن أي دعم محتمل، كما تعتبر دعمهم له واجبًا إنسانيًا على الجميع.
ويتساءل والد عاصم عبر (إب7برس):”ما هي الفائدة للشخص المعاق بالصمم والبكم والذي التحق بالدراسة طوال حياته، وحقق نجاحًا متميزًا، وفي الأخير يقعد في منزله محبطًا نادمًا على تعبه في الدراسة لسنوات، حيث أنه كان يسافر مسافة 40 كيلو متراً في الصباح ذهاباً ومثلها في الظهيرة إيابًا بشكل يومي على مدى8 سنوات بكل عزيمة وانتظام، متنقلاً بسيارات الأجرة أو الباصات من مركز مديرية السياني إلى مدرسة الصديق في مدينة تعز، الأمر الذي كلفني أنا والده المبالغ الهائلة”.
ويوضح والد عاصم بأن ابنه عاصم بقي حبيس منزله مكتئبًا ومحبطًا بعد أن تحطمت آماله وطموحاته بالحصول على وظيفة تناسب حالته في تخصصه، منذ أن تخرج في عام 2018.
ويشارك أحد الجيران في النقاش بأن عاصم لم يحصل حتى على أقل القليل من الدعم لعلاج مرض الروماتيزم الذي أصابه مؤخراً.
عاصم نموذجا بسيطا من آلاف الشباب المؤهلين من ذوي الاحتياجات الخاصة، هذه الفئة المهملة التي فقدت بعض حواسها، ليملأ الفراغ ذكاءها الفطري الذي يبني الوطن، حال وجدت الدعم والمساندة.