حكايا جدتي
(حزاوي) 7
قصص من الأدب الشعبي
إب7 press
أميمة راجح
لا شيء يسمع في الغرفة سوى صوت حبات المسبحة بشكل رتيب، الستائر مشرعة والشمس الغاربة تزهو فوق الجدران بملامح القمريات وبلون أصفر مائل للبرتقالي، الرياح الجنوبية تلاطف شجرة الرمان في البستان الخلفي لمنزل الجيران، أمي منهمكة في تحضير وجبة العشاء، وأنا أراقب القبر الصغير الحديث من النافذة مراقبة دون هدف وغاية.
مرت ساعة وبدأت الشمس تنحسر وأنا لم أغير موضعي والصمت المهيب كسره صوت جدتي قائلة: “بتحارسي الجنازة لا يأكلها السُبع*؟”
ودون تفكير: ماهو السُبع؟
قالت جدتي: آكل جنائز الأموات.
في حركة واحدة أغلقت النافذة والستارة وارتميت بجوارها معترضة وساخطة: “ليش بتخوفيني يا جدة ؟!”
ضحكة جدتي المشبعة بالمحبة والوقار خففت سخطي وجرتني للحظات الحكايا، فجلست منتبهة أنتظر الحكاية.
تقول جدتي: نحن البشر أقل المخلوقات يقينا، لا نؤمن إلا بما نشاهده، والإيمان بعالم الغيبيات صعب ومحدود، لكننا نحب الخرافات ، ونتمسك بأبطالها دون الحاجة لمعرفة حقيقة وجودهم أم لا ولأجل هذا فالسبع هو أحب أبطال القصص في وجداننا يا صغيرتي، هو المفضل على الأطلاق من بين كل الأبطال كعدار الدار، وأم الصبيان، وغنمة الشميلي*، وووووالخ.
اكتسب السبع مكانته من بطولاتنا نحن البشر واستبسالنا أبا عن جد في حراسة أمواتنا في قبورهم.
ومن حكايا المحطبات* والمعلفات اللاواتي عدن يحملن قطع الأكفان الطرية، تفوح منها روائح المسك والمشقر*، من الوديان والقفار البعيدة.
والسبع بطل طويل القامة عريض المنكبين مفتول العضلات، بارع في القفز والنبش والاحتيال على حراس القبور، ليس بأدمي وليس بقرد كبير، يمشي على قدمين ويعمر طويلا، ينتقي ضحاياه حسب خرائط الأنساب المزعومة، وأحيانا حسب أعمال الأموات الشريرة، لكنه يا حبيبتي بطل لا ترغب الفتيات بالزواج منه البتة.
اتسعت ابتسامتي وقلت بصوت خافت يتمايل مع جدائل جدتي البيضاء:
وهل يتزوج البشر من أكلي لحومهم؟ قالت جدتي: يحدث كثيراً .
بعد مئة عام من الان سيكون شكل السبع مختلفا في الحكايات، سيكون رجلا أنيقا بربطة عنق مقلمة، لا يزور المقابر لكنه كل ليلة يتناول عشاءه في مطعم فاخر بينما يقضي النهار في العمل الجاد بالذبح والسلخ دون أن تتلوث بدلته بقطرة دم واحده.
قلت: جدتي هل يعقل أن يكون السبع منذ الأزل بشري شذ عن الفطرة؟
قالت جدتي: الشذوذ عن الفطرة صفة عصركم هذا فقط،
رمقتها بنظرة مستنكر وقلت: أين الحكاية الأصلية إذا؟
شدة أذني وقالت: خلق السبع سبع، لم يمسخه الله ولم يحل عليه عقابا ما، لكن في زمن غابر وبينما كان السبع يتجاهل نداء الطبيعة ويكتفي بأكل ما تجود به ثمار الأشجار خوفة ومهابة من العظماء -الذين شيدوا لهم قصور للسكن ومقابر منيعة للموت- اختلف الناس واشتعلت الحروب واندثرت المقابر المنيعة وانتشرت الجثث هنا وهناك وأغوت السبع بالمجازفة وتلبية رغبات أحشائه الجائعة، وحينما توقفت الحرب واختفت الجثث أنب الناس جارهم السبع فيما فعل فجثى على ركبتيه وعاهدهم أن لا يأكل إلا جثث الذين تسببوا في الحرب وذريتهم.
وفزع الناس، وقرروا حصر المعنيين بإشباع السبع بعد موتهم وقرروا أن يتفاوضوا مع السبع حول موعد أكله لتلك الجثث.
واتفقوا أخيرا أن الجثة ستكون من حقه أول ثلاثة أيام لها في القبر، وأمن السبع لعهدهم، وعاد قرير العين لكهفه ينتظر وجباته بفارغ الصبر.
في المرة الأولى بعد الإتفاق نسي الناس حكاية السبع، أودعوا الجثة قبرها وتركوها بأمان، في صباح اليوم التالي وجدن النساء كفن الميت منشور من أعلى جبل بالمنطقة، غضب الناس وقرروا الإنتقام لميتهم جمعوا أسلحتهم وذهبوا ليقتلوا السبع، هرب السبع وأفلت، لكنه أقسم بصوت عالي رددتها الوديان أن لا يتركن جثة من جثث مشعلي الحرب وذرياتهم.
سمع الناس قسمه الغاضب، وأدركوا أن السبع لا يخلف العهود أبدا، ومن ذلك الحين صار لزاما حراسة قبور البعض ثلاثة ليال متتالية، وعدم تعرضهم للسبع وعدم تعرضه لهم.
قلت لجدتي: وهل يحفظ السبع الوعد ويخلفه البشر؟
وقفت جدتي واتجهت نحو الستارة، وفتحتها أشارت للمدينة المتسعة أمامي وقالت لي:
السبع يأكل الأموات لكن البشر يا حبيبتي يأكلون الأحياء، الحاضرون منهم والغائبين.
اعتلت الصدمة ملامحي، تدثرت بمعطف الشفق وقلت متفكرة:
والوعود؟
أضافت جدتي: لا يوجد مخلوقا على وجه الأرض أكثر توحشا من البشر، لذا جاءت القوانين التي لاتستند للوعود الشفهية ولا حتى لتلك الموثقة، لا شيء يهذبنا نحن البشر غير القوة، قوة الإيمان، قوة الآخر، قوة الإرادة لقهر رغباتنا، ولهذا لا أحد يحب الضعفاء إنهم وضعفهم سبب الغواية الأول.
وأخيرا ومع صوت المآذن الصادح بالطمأنينة قلت: نحن من الذين يحل للسبع أكلهم؟
لا جواب لسؤالي؟
ربما لا أحد يدري وربما سيسبق السبع آخرين لالتهامنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
# هامش
*السبع كائن اختلف الناس في حقيقة وجوده، وهو أهم أبطال الحكايا الشعبية في تراثنا، وكذلك عدار الدار وأم الصبيان وغنمة الشميلي.