من تونس الخضراء إلى نبض الوطن الكبير محافظة إب،،
سلسلة مقالات حول زيارة « إب7برس » للجمهورية التونسية ” 5 – 5 “
احن إلى خبز أمي
نشوان النظاري | رأي
صوت الفنانة التونسية مروة قريعة،” أسعد زمان الحب من وعدك الين القاك، وباقي الأيام تمضي في جحيم جفاك، طول الدجى سهران اتقلب على الاشواك، لفنان اليمن الكبير أبوبكر سالم، يلهب المشاعر ويهز الوجدان، ونحن على متن طائرة اليمنية صوب مطار عدن”.
مضيفات اليمنية قد لا يتمتعن بقدر وافر من الجمال، لكنهن شهيات وقريبات للقلب، ليسوا متكلفات، واغلبهن ودودات وتعاملهن أنيق، وبسيط، ورائحتهن تشبه البخور العدني.
الآن، كل ما بات يدور في تفكيري، ويشغل خلدي، كيف الوصول لمدينة إب بأقل كلفة معنوية وجسدية، إذ عانيت كثيراً في رحلة الذهاب، لكن شغف الأمكنة انساني ذلك، فقد آلمني فمي وبدا معطوبا للغاية في ثاني أيام الإقامة في عدن أثناء الذهاب، ذلك أنني نفذت في الليلة الأولى أطول مقيل في التاريخ ربما، أو حتى لا أغالي، فقد كان مقيلا مختلفاً وطويلاً لأقصى درجة، فقد تجاوز الـ 20 ساعة، حيث امتد من عصر اليوم السابق وحتى قبيل ظهر اليوم الثاني.
في عدن الحياة مرتبكة، والعلاقات ملغمة، الركوب في وسائل النقل العامة يكشف حقيقة التوجس الموغل في أنفس الناس، إذ لا أحد يود الحديث عن شيء، والجميع في حالة شرود ووجوم وحذر شديد.
عدن ما تزال أيقونة المدنية والتعايش، وما طفى للسطح خلال الأشهر المنصرمة من حوادث أمنية مهولة في حق أبناء الشمال لم يكن صنيعة العدني البسيط، انما منظومة القوات المنضوية في خط العمالة للخارج وهذا ما يعطي مؤشر خطر حول النتاجات الكارثية لحروب الوكالة والتحريك الماكر للساحة الداخلية عن بعد.
العملة بالعاصمة الاقتصادية منهارة للغاية وتخطى صرف الدولار الواحد 120 ريالا، وبالمناسبة، أود أن أعرج لموضوع لفت انتباهي في العاصمة تونس، فالدولار هناك لا يحظى بالاحترام الكافي، وعادة تلجأ لبنك أو لمحلات الصرافة من أجل تغيير أو صرف أية فئة من فئاته، على عكس اليورو أو ” الأورو ” الأوربية فهي تلقى رواجا واقبالا في أي مكان وأي وقت.
الحياة في اليمن مليئة بالتعقيدات والفوضى والعبث، فمنذ وصولنا إلى مطار عدن ونحن في صراع دائم على أتفه الامور، فمنذ خروجك من بوابة المطار يتلقفك سائقي سيارات الأجرة وتبدأ في خوض نزالات وجدالات تلتهم الدقائق والجهد والمال، وهذا بالطبع ما لم يحدث في تونس العاصمة طوال إقامتنا، فلست بحاجة لكل ذلك، فهنالك عدادا يحدد تسعيرة للمسافة التي قطعتها، ويعتمد أغلب السائقين على جوجل للحركة والاختصارات ومعرفة المكان المراد الوصول إليه.
في رحلة العودة يجرفك الحنين للأصدقاء والأحبة في مدينة إب، مدينة الله والمطر والخضرة والجمال، المدينة المنسية والفيروزة الأنيقة، مدينة البسطاء والفلاحين والكادحين والمغتربين في كل بقاع الأرض، فتارة تشتاق لمقيل الصديق العزيز جميل القادري في مؤسسة بروميديا برفقة الزميل علاء حليس، وأخرى في حضرة العزيز محمد مزاحم والرفاق صلاح الطاهري وسليمان الحميدي وصادق العواضي.
وفي استراحة المنار يستريح القلب، وتلامس الروح ألفة وصفاء ونبل مجموعة من الشباب الذي لا يتكرر، الجميع على قدر وافر من الثقافة واللياقة وسمو الأخلاق، لا أحد يخلو من العطاء والايثار والتحلي بروح البهجة والمزاح المفتوح لا سيما قبيل الدخول في الساعة السليمانية، عندما يصل الجميع لذروة النشوة والانخراط في التفاصيل الذاتية، أشتاق إليهم جميعا ولاملاءات وقوانين الفيزيائي العظيم مصطفى الحمدي.
كم يحدوني الشوق لرفقة الزحف الصباحي نحو المجهول بمعية الحبيب ماجد ياسين وعمر الكثيري، والصديق يحيى البعداني، وأحياناً بصحبة الصديقين عبدالخالق الجنيد وفهد صلاح، والعزيز خالد كرش، وبالمناسبة الاسم الاخير تكرر كثيرا في تونس، لا سيما من قبل الزملاء في ريمة بوست وبعض المهتمين بالنشاط على منصات التواصل الاجتماعي.
في إب كوكبة كبيرة من الناشطين والصحفيين والمتابعين، لذا يُقال من باب التندر أن إب يديرها الازرق العملاق ” فيسبوك”، فتجد الناشط الحقوقي البارز مراد البنا، وقد التحق مؤخرا في الدراسات العليا، وعبدالله الكامل، وفؤاد المليكي، وخالد الانس، وسمير ابلان، وياسر الخطيب، وتجد أيضا تياراً اخر يقوده رداد سعيد من جهة وردمان الاديب من جهة اخرى، وعلى النقيض تماماً تجد عبدالكريم الرعوي وعلي درموش وعلي العمري، عبدالله كرش، ومرسل الشبيبي، كذلك سليمان الكبسي، وعادل فرحان وياسر عباد ووليد المطري، وعبدالسلام جباري، هشام سنان، خالد الفقية، عبدالله بالسلامة، حميد الطاهري، صلاح ربيعي، خالد وريدان أبلان، نور الدين الفدج، وغيرهم كثر.
ناشطتان في إب تقلبان المعادلات وتحركان المياه الراكدة هما كوكب الفضلي ونور كمال، ومذيعتان في إب تمثلان أحد أهم معالم المدينة وصداها الساحر الجذاب سمية سحلول وصباح الشغدري.
في المهجر لإب نبض مختلف، وحضور كثيف، وتناغم يضفي تواجد من ذلك النوع المذهل، فهناك وضاح الفقيه، وإبراهيم عسقين، والعزيز مختار الرحبي، وفي كل مرة القائمة طويلة، وطويلة للغاية.
تشتاق لجموح وجنون السميعي وقد بدت كلماته ونقده أكبر من حجمه بعشرات المرات، إنها إب وصحافة الكبار الجيل الورقي العتيد محمود ياسين، احمد خرصان، محمد صادق العديني، منيف الهلالي، عبدالوارث النجري وعادل عمر، إبراهيم البعداني، فواز اسكندر، محمد الحجافي، شاكر قائد، محمد الرعوي، ناهيك عن الشارع الرياضي الكبير الذي يعتلي قمته المخضرم المنصوب، العماري، ضاوي، مريس، الورافي، الاحمدي، البعداني مضاد، صادق وجيه الدين وغيرهم كثر، وليعذرني من سقط اسمه سهوا لا قصدا فالقائمة طويلة جدا، والعدد أكبر من هذا الحصر الركيك.
لقد كانت رحلة رائعة ومثمرة، لا سيما برفقة الأحبة طاهر الزهيري جلال الدعري، هذان نجمان مشعة في سماء إب، وشابان يتمتعان بقدرات ومواهب إعلامية وفنية ورسم وتمثيل وتصوير وإخراج والعديد من الخبرات المتنوعة، وكذلك دماثة أخلاق وتعامل نبيل وصادق، نحن لم نعد زملاء فقط، بل تعدت علاقتنا فوق أي مستويات اجتماعية إعتيادية، نحن اخوة تجمعنا الأهداف الواحدة والأحلام المشتركة، لكن ما كان ينقص هذه الرحلة الخرافية وجود مدربتنا الرائعة الصحفية العربية أمل مكي، إنها مدرسة صحفية تشربت المهنة على أسس علمية وطورت مهاراتها بطريقة احترافية، ناهيك عن استخدامها في التدريب للطرق الحديثة، واتباع الأساليب الرفيعة في الذوق والتعامل، وهي على الدوام تقدم خلاصات معرفتها بقوالب حديثة ومواكبة للتدريب والتدقيق الصحفي.
في طريق العودة أرى الآثار المخيفة لقصف الطيران، والدمار الذي لحق بالبنية التحتية في كل مكان حتى طال مبنى المطار، وبالمقابل يظهر منزل ” هادي ” في خور مكسر، مهجورا كئيبا متجرداً من أي صيغة وجودية، الريح تسكنه والاشباح تحاصره والسواد يلفه ويستحوذ على مستقبل غامض بلا محددات أو ملامح.
على أصوات هدير امواج ساحل أبين وقد وصل خدر القات مدايات واسعة، الحياة بدت خاملة سوى من طوابير العابرين على قارعة الفاقة والجوع والحرمان، كل الفئات والمراحل العمرية يمدون أيديهم بخجل فاق سفالة السياسيين وتجار الأوطان، لم أر في تونس متسولون بهذا الشكل المبالغ، بالرغم من أنها ليست دولة نفطية، ومنسوب البطالة فيها مرتفع للغاية لا سيما فى أوساط الشباب، لكنها الحرب من أحالت شعبا برمته للهاوية.
في كل محطات العمر ومنعطفات الزمن ثمة أصدقاء أوفياء يقفون بقوة وشموخ خلف طموحاتنا، إنهم ملاذات آمنة وفضاءات واسعة للتحليق والإبداع، قوارب نجاه ومرافئ حياة، كم أنا محظوظ بهم جميعا، إنهم وطني الكبير.
يؤمن التوانسة أن اليمن هي أصل العرب والامتداد الأول للحضارة العربية، ويتجلى ذلك من خلال عدة أمور، لعلي ساسرد هنا بعض تلك الامور، فعند معرفة أغلب الناس بجنسيتنا يسارعون إلى الاحتشاد العاطفي وتأكيد أن اصولهم تعود لليمن، وقد كان أحد الاعلامين أكثر توفيقاً ودقة حيث أنه من قبيلة يمنية تدعى ” الجرادي ” وهو شاب مندفع وبشوش ومن خلال ملامحه يتبين أنه يمني بامتياز، وفي إحدى صباحات العاصمة الباردة، وقد كنت في نزهة صباحية برفقة الزميل طاهر الزهيري، إذ برجل متقدم بالسن، يوقفنا ويسأل عن هويتنا، وفور علمه بأننا من اليمن اغدق علينا بكرم الأخلاق وزاد في ذلك بمحاولة حثيثة بتزويجي من دكتورة جامعية وقام بالاتصال بها وطلبت مقابلتي، ولولا وقتي الضيق لكنت الآن في عوالم حياة مترفة بالشغف والتماهي والذوبان.
ثمة ما يدفعني في هذه اللحظات للتفكير الجامح بوجبة السلتة والفحسة، والوجبات الشعبية، بعد أيام قضيتها على السفرة التونسية اللذيذة التي لا تخلو من وجبة الكسكسي، والبوريك، والسلطة المشوية، والشربات المتنوعة، والأسماك، والوجبات الشعبية السريعة التي تُباع فوق عربات دفع يدوي متحركة في شوارع العاصمة كسندوتشات الكبدة والدجاج، بالإضافة إلى الفواكه المحلية كالفراولة، والتفاح والبرتقالي التي تملأ شوارع العاصمة، وبعيدا عن كل ذلك، ينبغي أن يعلم الجميع أن أغلب المحلات هناك تبيع المنتجات التونسية، لا سيما في المناطق والاحياء الشعبية، وأن أغلب قاطني العاصمة يجيدون اللغتين العربية والفرنسية.
ينبغي أن لا أغفل بنهاية هذه السلسلة الوجه الملائكي المشرقة الذي نقابله كل صباح عند مغادرتنا غرف الفندق، إنها السيدة الكريمة التي تقوم بإعادة ترتيب الغرف وتهيئتها وإعادتها كما كانت، تلك السيدة الحنونة أمنا الجميلة، سيدة في عينيها تتدفق انهار الحنان والود والطيبة والأمومة المفرطة، ابتسامتها الصباحية تختزل وجه تونس الكبير، والطيبة المعجونة بالكفاح الشريف.
أحنُ إلى خبز أمي، وقهوةِ أمي ولمسةِ أمي، وتكبر فيَّ الطفولةُ يوماً على صدر أمي، كما قال الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش في قصيدته الشهيرة “إلى أمي “، واردف، وأعشق عمري، لأني إذا متُّ أخجل من دمع أمي .. خذيني، إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهدبكْ وغطّي عظامي بعشبٍ تعمَّد من طهر كعبكْ.
شكرا لتونس التي منحتنا كل هذا الدفء والانطباع الخالد في القلب والوجدان، ممتنون للمؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة التي استقبلتنا بترحاب وقدمت لنا المعرفة والأطر العملية للنجاح، وللفريق الذي رافقنا خلال المنتدى وقبله وبعده، بداية بالعظيمة سوسن، وهدى، سحر، والمدربة الفلسطينية الرائعة مونية دويك، والمحاضرة الجامعية دنيا العلاني، والصحفي المخضرم زياد دبار، والطبيبة العزيزة لمياء براهم، والمبرمج الكبير فهمي الباحث، والصديق العزيز بشير الضرعي، الصحفي اليمني والباحث في علم الاتصال بتونس، رجل يحفر في الصخر ليحقق أحلامه وينتصر في معركة الكبرياء والكرامة والعودة المظفرة.
وداعا.. إلى لقاء قريب، ويعيشكم جميعا ..
فندق اللوتس،
عدن – مساء الـ 24/ 3 /2022م