حكايا جدتي

(حزاوي) 4
قصص من الأدب الشعبي

إب7 press
أميمة راجح

“باطن الكف الأيمن”

أمسكت القطة الجميلة الصغيرة وتوجهت لجدتي الجالسة في فناء البيت الخلفي تتأمل زهور الخزام* المفضلة لديها، وضعت القطة على غفلة في حجرها فصرخت بي وهذا أمر متوقع فالقطط أهم أعداء جدتي الأزليين.

تجاهلت صراخها وقلت: تحمليها قليلا جدتي لأجلي.

أبعدتها ونفضت ملابسها بقوة، وقالت بحدة: خذي قطتك قبل أن أرميها.

شهقت خوفا وسحبت القطة بخفة وقلت بضيق شديد: جدتي لقد جلست عاما كاملا ابحث عن قطة بيضاء صغيرة عينها اليمنى صفراء واليسرى زرقاء وبها سواد يلف يدها اليمنى لتأتي أنتِ وتفسدي هذه المعجزة الآن بسبب حساسيتك تجاه البراغيث!

عقدت جدتي حاجبيها وسألتني: وفيما تحتاجها فتاة مثلك؟

قلت: إنها مقابل أن يقرأ لي ذاك المنجم كفي ويخبرني متى سأتزوج؟

قلت عبارتي الأخيرة بصوت هامس كي لا يصل لمسامع أمي، وتابعت: وسأعلم أيضا متى سأكون ثرية.

صمتت جدتي، سحبت يدي وفتحت كفي اليمنى تتأمل خطوطها، مرت دقائق كثيرة حتى ظننتها ستقرأ كفي لكنها عوضا عن ذلك قالت:

سماه والده سرجون تيمنا بملك عظيم اسمه سرجون الثاني، كان فتى ذكيا طموحا وشجاعا، وسيما وغامضا للغاية، تعلم الصيد في سن مبكرة والمبارزة والفروسية، وبرع في علوم كثيرة.

ثم سكتت جدتي كأنها تفكر وقاطعها مواء القطة الصغيرة فتابعت: عيبه الوحيد والصغير جدا كان الفضول الشديد الفضول الذي دفع به نحو السفر والمغامرة.

صفقت بحماس قائلة:

مغامرة… ما أروعك جدتي!

شدت أذني وتابعت:

سافر نحو قرية يقال أن فيها عالم فلك لقد أحب النجوم وهام بها لهذا أراد أن يشبع فضوله حولها، وصل القرية، وقابل الفلكي الذي ذاع صيته.

سألت جدتي باستغراب:

وهل كان لديه مرصد؟

تجاهلتني وتابعت:

جلس بمعيته شهورا عديدة خلالها اكتشف أنه لم يكن فلكيا بل مجرد قارئ كفوف خبيث.

استحوذ على كتبه ونهب ماله واحتجزه في قلعته الكبيرة المظلمة يريد أن يكون مريده الوحيد لسبب لم يفصح عنه.

حاول سرجون الهرب لكنه كان يفشل دائما فكيف سيهرب من ساحر خدامه جن وعفاريت ويسمونه الناس ‘القدر المحتوم’ لكثرة أذيته.

قاطعتها بخوف: جدتي هل تخيفينني لتنتقمي لنفسك بسبب قطتي؟

ضربت كفي بحزم وتابعت:

لكنه توقف عن تلك المحاولات الفاشلة وفكر بطرق أخرى ومختلفة تماما ليهرب.

وأخيرا طلب سرجون من القدر المحتوم أن يقرأ له كفه اليمنى وسيكون هذا عربون صداقة كافيا ليبدأن علاقة صداقة قوية تليق بسرجون المفعم بالحياة وبالقدر المحتوم المتلون خبثا.

وافق القدر المحتوم دون تردد، بسط سرجون يده اليمنى وابتسم ابتسامة هادئة لا تشبه أفكاره البتة وأصغى الصمت.

تأمل القدر المحتوم خطوط الكف القوية التي بين أصابعه المرتجفة، وتبدلت ملامحه تدريجيا لشيء لا يمكن وصفه أو ربما لنهار حجبت شمسه.

وتلكأ كثيرا كثيراً ثم قال بعد صمت طويل:

كفك يقول أمورا مروعة لو أردت معرفتها عليك أن تلبي طلبي.

أومئ سرجون بالموافقة، ابتسم القدر المحتوم وقال:

أريد قلب الأمير.

وتوقفت جدتي عندما سمعت صوت أمي توبخني من المطبخ وتطلب اخراج تلك القطة من المنزل، فوقفت قائلة: سأعود حالا جدتي.

أجابتني بصرامة: لن أتفوه بحرف مالم تتخلصي منها وتغتسلي جيدا وتغسلي ثيابي وثيابك أيضا وتعتذري من والدتك.

صدمني قرارها القاسي المتعمد فأنا لن يهنأ لي بال حتى تكمل الحكاية، فخرجت أفكر كيف أقنع قارئ الكف أن يقبل بالقطة وحدها لأن من المستحيلات أن أجد ذبابة عذراء بيضاء أيضا وأتخلص حينها منها ويقرأ كفي سريعا.

وحال مغادرتي قلت: موافقة يا حبيبة جدي.

وخرجت راكضة قبل أن تأتي زوجة ابنها وتجرني من شعري نحو قطتي المسكينة.

“باطن الكف اليسرى”

اندفعت نحو غرفة جدتي بروح مثقلة بالخيبات وبصوت ممزوج بالسخرية: هل قبل سرجون شرط القدر المحتوم؟

قالت: قبل ولكن اشترط أولا أن يقرأ القدر المحكوم خطوط كفه اليسرى وما كان من القدر المحتوم إلا الرضوخ وقراءة الكف، الكف التي عجز الساحر أن يفسر كلماتها وخطوطها المتشابكة واكتفى بقول مبهم “المستقبل ثمرة، وهذا الوقت هو السقاية والشمس، والماضي جذور متينة سيقطعها الغيرة أو الضغينة “.

ابتسم سرجون وقال: لن أجلب لك قلب الأمير فاطلب شيئا آخر.

لقد كان محتدا وعدوانيا على غير عادته فخاف منه القدر المحتوم وقال: لكنك وعدت ولن تخلف وعدك.

وهكذا بدأت مغامرة سرجون للبحث عن الأمير وحيلة صغيرة تخلصه من وعده الغبي، فهل سيقتل أحدهم فقط ليشبع فضوله؟

أثناء مغادرته رفع القدر المحتوم قلادة في وجهه قال له: هذه تميمة سحر أسود سيبدأ مفعولها بعد ثلاثة أشهر لتتحول لرجل مجنون فاقد عقله ولذا يجب أن تأتيني بقلب الأمير قبل ذلك بكثير.

غضب سرجون كثيرا لكنه لم يبد اعتراضه بل شاهد القدر المحتوم بهدوء وهو يرتديها وعلى وجهه ابتسامة خبيثة مظلمة.

وغادر سرجون أخيرا وكر القدر المحتوم وكل ما يملكه سيفا وقليل من الزاد والماء وعصفت به الأفكار والأسئلة وقرر في البداية أن يزور والده ووالدته ويطلب منهما المشورة.

في الوقت ذاته ركز القدر المحتوم على تلك الرسالة المبهمة التي وجدها في كف سرجون في محاولة لاكتشاف سرها وبينما كان يتحرك بعنف غاضبا من عجزه أتلف القلادة المعلقة على رقبته تماما، وحاول استدراك الأمر بالبحث في غرفة سرجون عن أثر منه ليعيد صناعة قلادة مثلها ولقد صدم حينما وجدها محروقة تماما وقال لنفسه: تبا له كيف أن يكون بهذا القدر من الذكاء! -وتذكر القدر المحتوم والد سرجون واشتعلت نيران الغيرة والضغينة في صدره أكثر. –

، وطمأن نفسه بأن سرجون لا يعلم بتلف السحر الأسود ولهذا سيقوم بالمهمة على أكمل وجه.

قاطعت جدتي: لقد قال لي ذلك المحتال أنني سأتزوج بعد ثمانية أعوام وإذا أردت تقليص الفترة يجب أن ادفع له ليعالج أمور برجي الفلكي.

ضحكت جدتي بصوت عالي وقالت: وماذا عن الثراء؟

قلت: قال الحظ لديك مرتبط بالجنس -عديم الحياء- فلا ثراء دون زواج ولا زواج دون ثراء.

ثم لففت وجهي بعيدا كي لا ترى دموعي وتابعت: ذلك اللص أخذ مني مالا كثيرا وتلك القطة الصغيرة بل وقال لي: خطوط جبينك لها حكاية وخطوط باطن القدمين أيضا يظنني غبية سأصدقه.

تجاهلتني جدتي وتابعت حكايتها:

وصل سرجون لوالديه متعبا ومنهكا للحد الذي جعله يبكي على كتف أبيه كطفل صغير، وحكى لهم حكايته وصمتت أمه بينما قال له والده بحزم: هل ستقتل رجلا لأجل أن تعرف أي مستقبل ينتظرك؟

أجاب سرجون: لم يعد الأمر مرتبطا بالفضول فالقدر المحتوم عقد لي سحرا أسودا لن أنجو منه مالم أعد إليه بما طلب.

قال له والده معاتبا: ألم احذرك مغبة الفضول يا ولدي؟!

اخفض سرجون رأسه وقال بهدوء: سأدفع الثمن وسيسكت هذا الفضول للأبد.

وعزم سرجون على الجلوس بمنزله حتى تنتهي المدة المطلوبة.

سألت جدتي: جدتي ما سيفعل القدر المحتوم بقلب أمير؟

قالت : ما فعله صديقك المحتال بالقطة؟

وبدأ لي سؤالها استنكارا أكثر من كونه استفساراً وأدركت أن قطتي المسكينة في خطر وعليا انقاذها حالا.

وغادرت منزلنا راكضة ولم أتوقف إلا وسط خرابة ذلك المحتال ووجدته بالفعل يحاول الامساك بقطتي وهي تهرب منه مذعورة فصرخت به: توقف.

لكنه تجاهلني تماما وتابع عمله فاتجهت نحوه ودفعته بقوة بعيدا عن القطة وكررت ما قلته سابقا.

فصرخ بي: تبا لك لم تعد لك اذهبي من هنا قبل أن يحملك الجن رغما عنك ويعلقونك بالتالوقة* أسفل الوادي.

فسرت بجسدي القشعريرة وتراجعت للخلف لا أرى شيئا إلا الدموع فلعنت الفصول والزواج والمال وكل شيء عدا هذا الساحر البغيض خوفا من حلفائه اللامرئيين وعدت نحو جدتي أبكي بشدة.

“القدر المحتوم”

ربتت جدتي على كتفي وتابعت حكايتها:

مرت ثلاثة أشهر كاملة استغلها سرجون بتطوير مهاراته بالفروسية وبدراسة علم الفلك يعد العدة للمواجهة الأخيرة بينه وبين القدر المحتوم وفي صباح يوم الموعد ذبح والده خروفا وأقام وليمة وودعه قائلا: يقول المثل يا بني ‘ما يكسر الحجرة إلا أختها’ والقدر المحتوم ماكرا لن يخلصك من مكره إلا مكرا أعظم.

قاطعت جدتي كالعادة وقلت: كيف سأنقذها؟!

جدتي ارجوك ساعديني.

لكن جدتي قالت:

حمل القدر المحتوم القلب بين يديه مدهوشا وقال بصوت يملئه السخرية: لقد فسدت القلادة ولم أجد لك أثرا لأصنع بدلا عنها وبقيت عبدا لي بدونها.

ثم ضحك، وقال: رأيت في كفك اليمنى أن سُيجن على يدك رجلا محتالا أكل الحقد انسانيته ظننت أنني المقصود فأرسلتك لتصبح قاتلا لكن يبدو أن هذا الرجل هو والدك.

 

أخرج سرجون سيفه ومزق الحجابات المعلقة على صدر القدر المحتوم قائلا: لقد علمت من تكون منذ رأيتك المرة الأولى، فأنت عمي الذي كره تفوق أبي فاستخدمت حيلك لتوهمنا أنك ساحر عظيم وترهبنا فنخضع لك ونبذوك الناس فادعيت العلم ووقعت في فخك ولكنني لما عرفتك جلست بجوارك وأردت أن أصلح الأمر لكن حقدك غلبني، فاضطررت لخداعك وجلبت قلب خروف عوضا عن قلب الأمير.

 

ضحك القدر المحتوم بحرقة وقال: الآن فقط فهمت ماذا تقول خطوط كفك، أنا جذور الماضي، أنا الضغينة والغيرة.

وكرر القدر المحتوم تلك العبارة بطريقة هيستيرية.

دهش سرجون وقال بحزن: لقد جُن.

ففتح كفه اليمنى وقال: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.

وقاطع رنين هاتفي جدتي وأجبته على مضض فكانت صديقتي الغبية التي أخذتني لذلك المحتال سابقا تقول: إنه تاجر قطط، يبحث عن القطط المبهرة ويبيعها لرجل أجنبي بأسعار خيالية، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف حتى أن الشمس نجم والقمر كوكب لقد خدعنا.

أغلقت الهاتف دون كلام وقلت لجدتي: لن تموت القطة ولن أتزوج بعد ثمان سنوات وابتسمت أخيرا.

شدت جدتي أذني وقالت: ولا فضول بعد الآن.

هززت رأسي رافضة فلولا الفضول ما عرفت حكاية سرجون.

تجاهلتني وتابعت:

يقول كفك أنك شخصية لطيفة وودودة واجتماعية إن أردت ذلك، والعناد في مشاعرك يعتبر من الصفات السلبية التي تخسرك أشياء جميلة بمحض إرادتك يا حبيبتي، وقد تتنازلين عن الامتيازات في حياتك بسبب عنادك.

ستتزوجين في الثلاثين قد تزيد أو تنقص قليلا، وتتزوجين مرتين الأولى قصيرة والثانية طويلة، وحظك يا صغيرتي مرتبط بالانتقال الجغرافي وستكونين ثرية يوما ما بالتأكيد.

صرخت بحماس مختلط بالخوف والرهبة ثم همست: جدتي تقرأين خطوط الكف!

طبعت قبلة حنونة على كفي وقالت: نحن نقرأ لكننا لا نؤمن بالخطوط.

وابتسمت ابتسامة ذات مغزى، وأشارت للباب وقالت حال خروجي: الأسرار تبقى أسرار.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخزام نبتة البابونج.
التالوقة شجرة ضخمة تعيش قرون عديدة.