أوجاع المسافر

إب7 press

عمران هلال l مقال رأي

في الرحلة البرية رقم 18 لشركة البركة الذاهبة من محافظة إب_ اليمن إلى منطقة الدمام في المملكة العربية السعودية لم يكن أمام جميع ركاب الرحلة الـ 45 مسافر إلا الاجهاش بالبكاء والمزيد من البكاء لقصة إنسانية حميمة ومؤلمة كان بطلها طفل ذو العامين والنصف من عمره.

الطفل محمد خرج مع جده وعمومه لتوديع عمه الأحب إلى قلبه و الاكثر تعلقاً به والذي يسافر لأول مره إلى أرض المملكة للعمل هناك كمغترب بعيدا عن أهله بعد أن ضاقت به سبل المعيشة في هذه البلدة وأرتفعت معدلات البطالة لشبابه المؤهلين علميا، وقلت فرص العمل إلى ما يشبه العدم.

يرتبط محمد بعمه ” عمر ” بعلاقة محبة تكاد تضاهي علاقة الأبوة بقوة ترابطها. فهو يستيقض كل يوما بحثا عن عمه ويخرج باحثا عنه في كل الطرقات والممرات على الدوام.

تبدأ قصة اليوم  بعد وجبه من البكاء الذي أطلقته نسوة بيت المسافر  كطقوس اعتيادية لتوديع المغترب و مراسيم التوديع الأخيرة.

خرج عمر ملوحاً بوداعه لأهله فيما تمسك محمد بجلابيب ملابسه باكياً و بحرقه، مناشدا و بلغته الطفولية أن يأخذه معه.

وأمام اصرار الطفل تم اصطحابه إلى محطة الحافلات العملاقة التي تقل المسافرين برا إلى خارج الحدود، وهناك وعقب مراسيم الوداع الاخيرة، صعد عمر الباص الجماعي للسفر بعد أن أتم توديع أصدقائه المودعين له وبقية الأسرة، وما إن جلس على مقعد الجلوس في الباص إذ بمحمد يقفز من حضن جده صاعدا إلى  الباص و مستقرا بصدر عمه ممسكا له بكل قوته وبصوت ممزوج بالبكاء والرفض، حاول جده وبقية أقاربه اغراؤه بالنقود، واستخدموا معه شتى الطرق، لكن الطفل أبى وعرقل الرحلة.

حاول بعض المسافرين استدراك هذه اللحظة المؤلمة للخروج بدون دمع، لكن دون جدوى مما استدعى جميع المسافرين إلى استحضار ذكر أهلهم وأطفالهم ومن خلفوا ورائهم من ذرية غصبا عنهم للبحث عن لقمة العيش في اقاصي بلاد النفط البعيدة.

إستذكر المسافرون عمق هذا الوجع الذي يغرق به أطفالهم وهم يتركونهم لله ليرعاهم  مجبرين على السفر للمجهول هروبا من فقر و كفاف هذه البلدة التي يحبونها حد الجنون ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع فأجهش الجميع بالبكاء وبحرقه بما فيهم سائق الباص مستحضرا وجع هذه اللحظة المؤلمة، وبكي عمر وأصدقائه و تبلل الدموع وجه جده الشاحب الذي لم يكن يعرف الدموع حفاظا لكبريائه وقاره، وبكي معهم كل من حضر.

لأكثر من ساعة ممهورة بالدموع، يحتضن محمد عمه عمر وينام فوق صدره وحينها تسنى لبقيه أهله أخذه من حضنه غارقا بنومه و بدموعه وعلى أنات القلوب واندلاع ثورات الدموع يسافر المسافر وتنطلق الرحلة ويعود محمد نائما في حضن جده حالما بيوم غدا الذي سيقوم فيه للبحث عن عمه ليأخذه معه فوق دراجته الناريه كما العادة غير مدرك أنه قد ودعه حقا وأن عليه أن ينتظر عودته عقب سنين كثيرة.

محافظة إب واحدة من المحافظات اليمنية التي يعتمد أغلب سكانها على الهجرة الداخلية والخارجية، وينتشر أغلب ابناؤها في دول الخليج وماليزيا وبريطانيا وبشكل مكثف في الولايات المتحدة الامريكية.